ذات مرة كان هناك رجلاً حالماً وكان يعتقد مثلاً بأنه لابد من وجود طريقة لرؤية الأشياء من على بعد آلاف الأميال، أو كان يتصور أن هناك طريقة لتناول الحساء بالشوكة! وكان يعتقد بأنه يجب أن تكون هناك طريقة تجعل الناس يقفون على رؤوسهم، وأنه متأكد بأن يجب أن تكون هناك طريقة لتجعل الناس يعيشون بدون خوف!
أخبره الناس: أنه ولا واحدة من الأشياء التي يعتقد بها يمكن أن تتحقق؛ إنك رجل حالم!
وقالوا له أيضاً: يجب عليك أن تفتح عينيك جيداً وتعيش الواقع وتتقبله.
وقالوا له آخرون: توجد قوانين في الطبيعة لا يمكن تجاوزها أو يمكنك تغييرها.
ولكن الرجل قال: لا أعلم .. لا بد من وجود طريقة يمكن التنفس بها في الماء، ولابد من وجود طريقة لإعطاء كل شخص شيء يأكله. ولابد من وجود طريقة ليتمكن كل شخص من أن يكون حرّاً في تعلم ما يريد. ولابد من طريقة ليتمكن من النظر إلى داخل معدتك!
وقال له الناس: أقلع عن هذا أيها السيد؛ هذه الأشياء سوف لن تحدث أبداً! ببساطة لا يمكنك أن تقول أنك ترغب في شيء ما ومن ثم تتوقع أن يحدث. وُجد العالم كما هو عليه الآن وهذا ما سيكون عليه.
كان الإنسان قادراً على الرؤية لعشرات الآلاف من الأميال وكذلك تمكن من رؤية ما في داخل معدته بعدما تم اكتشاف التلفزة وأجهزة أشعة أكس. ولكن لم يقل له أحد: حسن، أظن أنك لم تكن مخطئاً جداً بعد كل هذا.
ولا يقولوا شيئاً بعد أن اكتشف شخص ما تجهيزات ومعدات الغوص التي أتاحت للناس أن يتنفسوا بسهولة في الماء عند الغوص. ولكن الإنسان يحدّث نفسه: هذا ما كنت اعتقده. ربما سيأتي يوم يكون فيه من الممكن للإنسان أن يعيش فيه بدون حروب!!
كان يوجد رجل يحلم ويتخيل.
يتخيل مثلا أن الإنسان يمكنه أن يرى الأشياء على بعد عشرة آلاف كيلو متر.
أو يتخيل أنه يمكن أن يحتسى الحساء بالشوكة وليس بالملعقة.
أو يتخيل أنه يمكن أن يقف مقلوبا على رأسه.
أو أنه من الممكن أن يعيش دون أن يشعر بالخوف.
وكان الناس يقولون له: " إن هذا كله مستحيل ، أنت تحلم ، أنت لست إلا حالم."
وكانوا يقولون له أيضا: " يجب أن تفتح عينيك وتتقبل الواقع."
ويقولون: "هناك قوانين الطبيعة التى لا تسمح بأى تغيير."
ولكن الرجل كان يرد عليهم ويقول: " لا أدرى .... ولكنى أتخيل أنه من الممكن أن يتنفس الإنسان تحت الماء. وأنه من الممكن أن يكون هناك طعام يكفى كل الناس. وأنه من الممكن أن يتعلم كل واحد ما يحب أن يعرفه. وأتخيل أننا يمكن أن نرى ما يحدث داخل أمعائنا."
وكان الناس يردون عليه قائلين: "لا تتعب نفسك. لا يمكن أن يحدث هذا. لا يكفى أن تتخيل شيئا وتقول من الممكن أن يحدث فيحدث. لقد وجدنا أنفسنا فى عالم لا نستطيع تغييره بأى شىء حتى بالحلم .. هذه هى خلاصة القول."
فكر الرجل ثم قال: "ألستم معى أن الإنسان الذى اخترع جهاز التلفاز ثم الأشعة المقطعية أصبح فى مقدوره أن يرى على بعد عشرة آلاف كيلو متر وأن يرى ما بداخل أمعائه؟"
قالوا له: "حسنا.. إننا نعترف بذلك ولا نستطيع أن نقول إنك على غير حق."
فاستطرد الرجل يقول: "كذلك عند اختراع أجهزة الغطس استطاع الإنسان أن يتنفس دون مشاكل تحت الماء."
ثم سرح الرجل وقال: "إذن .. من حقنا أن نتخيل أنه سيجيء يوم يعيش فيه الإنسان بدون حروب..! "
بعيد .. بعيد جداً وراء النجوم، كل شيء مختلف عما في الأرض وحتى أبعد من هناك كل شيء أكثر اختلافاً من هناك، حيث كل شيء مختلف جداً عما موجود هنا. ولكنك إذا ما رحلت بعيداً جداً جداً في الكون لمسافات بعيدة إلى المكان حيث كل شيء مختلف تماماً عن أي مكان، وربما هناك سوف يكون بالضبط كما هنا.
وربما في هذه المنطقة النائية جداً هناك كوكباً كبيراًُ مثل كوكبنا وربما يعيش أناس عليه. أناس يبدون كما نحن تماماً ماعدا أن لونهم أزرق ويمكن أن يطووا آذانهم عندما لا يريدون سماع أي شيء لا يرغبون فيه!
وربما نشبت حرب في هذا الكوكب النائي وحتماً كثير من الناس ماتوا، وكثير من اليتامى قد تركوا بعدهم. وعلى إطلال أحد البيوت التي دمرت بفعل قصف القنابل كان يجلس صبي أزرق يبكي لما حل به من فقدان أبوه وأمه. لفترة طويلة جلس هناك بتلك الحالة ولكنه توقف لأنه استنفد كل الدموع التي عنده، ونزع طوقه ووضع يديه في جيوبه وغادر. عندما رأى صخرة ركلها برجليه وعندما رأى وردة دنا منها.
وتقدم من الصبي كلب صغير ونظر إليه وبدأ الكلب بهزّ ذيله ومن ثم راح يدور حوله وبدأ بالسير جنباً إلى جنب معه ليكون في صحبته.
قال الصبي للكلب: اذهب بعيداً.. عليك أن تذهب بعيداً من هنا لأنك لو بقيت معي فسيكون عليّ أن أحبّك وأنا لا أريد أن أحب أي أحد مرة أخرى في حياتي الباقية. نظر إليه الكلب وهزّ ذيله بفرح وسرور. ثم وجد الصبي بندقية ملقاة بجنب جندي مقتول. التقط البندقية وصوّبها نحو الكلب وقال وهو غاضب: هذه البندقية يمكنها أن تقتلك!
وعندها فرّ الكلب مبتعداً. وقال الصبي للبندقية: سآخذك معي وستكونين صديقتي المفضلة.
أطلق الصبي النار على شجرة ميتة من بندقيته. ومن ثم وجد دراجة سكوتر سريعة من النوع التي يسيرها الأولاد برجل واحدة ملقاة على مقربة في حقل. ركبها وبدأ بالجريان، وقال: لدي الآن بندقية ودراجة سكوتر سريعة، سيكون كلاهما عائلتي وكان بإمكاني الحصول على كلب أيضاً ولكن ربما قُتل ومن ثم لابد لي من البكاء حتى الموت.
قام الصبي بجولة في الجوار على دراجته ورأى دخاناً يتصاعد من بيت فقال: ما زال هناك من يعيش في المنزل. أخذ يدور حول البيت وينظر من خلال النوافذ وكان في الداخل لا يوجد سوى امرأة عجوز كانت تعدّ طعاماً. أوقف الصبي دراجته أمام باب الدار وأخذ بندقيته ودخل الدار وقال موجهاً كلامه إلى المرأة العجوز: إن بيدي بندقية.. أريد أن تعطيني شيئاً لأتناوله.
ردّت عليه المرأة العجوز قائلة: أدخل سأعطيك شيئاً لتتناوله بأية حال.. يمكنك أن تضع بندقيتك جانباً وتتفضل لتأكل.
قال الصبي مقاطعاً إياها: لا أريد أن تكوني لطيفة معي. بإمكان بندقيتي أن تقتلك.
ولذلك أعطت المرأة العجوز طعاماً ليأكله ومن ثم انصرف. وهكذا كان يعيش الصبي. لقد هيأ لنفسه مكاناً مخفياً في بيت مهجور. عندما كان يشعر بالجوع، كان يذهب إلى مكان ما يعيش فيه أناس وكان يهددهم ببندقيته ويطلب منهم أن يعطوه شيئاً ليأكله. وفي أحيان أخرى كان يذهب إلى ساحات المعركة المهجورة ويجمع أجزاء عديدة من الأسلحة ومن الدبابات والعربات التي تم تركها هناك. كان يأخذ كل تلك الأشياء ويضعها في مخبأه.
قال الصبي لنفسه: سأصنع رجلاً آلياً مسلحاً بدرع حصين. سيكون طوله مائة ياردة ووزنه مائة ألف طن وسأكون في قمة رأسه وستكون غرفة التحكم فيها. وعندها ستكون لي القوة ولا يمكن لأحد أن يفعل لي شيئاً.
وفي أحد الأيام اقتربت من مخبأه فتاة. خرج الصبي إليها متأبطاً بندقيته وقال: يجب عليك أن تذهبي بعيدا عن هنا! يمكنني أن أقتلك ببندقيتي هذه.
فردّت الفتاة قائلة: لا أريد أن أزعجك. أنا أتيت فقط لأرى فيما إذا كان نبات الفطر قد بدأ ينمو ويكبر مرة أخرى.
قال الصبي: يجب عليك أن تذهبي بعيداً عن هنا. لا أريد أحداً بجواري!
وسألت الفتاة: هل أنت هنا لوحدك؟
قال الصبي: كلا.. لدي بندقية ودراجة سكوتر. هؤلاء هم عائلتي وفي يوم ما سيكون لدي رجلاً آلياً مدرعاً!
- أليس لك شخص حقيقي حي؟
- يمكن أن يكون لي كلباً ولكن ما حيلتي لو أن شخصاً ما قتله.. سأضطر حينها إلى البكاء حتى الموت من أجله.
فقالت الفتاة: في الحقيقة كذلك أنا ليس لي أحد، ويمكن لنا أن نبقى سوية.
- لا أريد أي أحد يمكنه أن يطلق النار من البندقية.
فقالت الفتاة: إذن أظن أنك تريد أن تجد شخصاً لا يمكنه استخدام البندقية وإطلاق النار.
ولكن الصبي أكمل بناء الرجل الآلي العملاق المدرع ودخل إليه وجلس في القمة عند رأس الرجل الآلي في المكان المخصص لغرفة السيطرة والتحكم. بعدها انطلق الصبي بالرجل الآلي وتجول في البلاد. كان الناس يصرخون في كل مكان يرون فيه الرجل الآلي العملاق وكانوا يفرون منه، ولكنهم لن يستطيعوا الإفلات منه. كان في غرفة التحكم مذياعاً وكل شيء يقوله يهدر من فم الرجل الآلي كالزئير وكان يصيح الرجل قائلاً: هل يوجد شخص هنا لا يمكن قتله ببندقية؟
ولكن أينما يحلّ الرجل الآلي العملاق، فإن الناس لا يفعلون شيئاً سوى الفرار منه ولم يجد شخصاً واحداً لا يمكن أن يقتل ببندقية.
وفي أحد الأيام، كان يرى من فوق من غرفة التحكم في المكان الذي يجلس فيه بأن شخصاً ما في الأسفل لم يفرّ منه وبدلاً عن ذلك وقف صامداً هناك وصرخ بشيء ما لينتبه له. ولكنه كان على ارتفاع لم يتمكن من فهم ما كان يقوله هذا الشخص. اعتقد الصبي بعد أن نزل إلى الأسفل بأنه ربما هناك أحد ما يمكن أن لا يقتل ببندقية. ولكنها كانت تلك المرأة العجوز التي طبخت له وجبة الطعام منذ زمن مضى، وسألها الصبي: هل تريدين أن تقولي لي شيئاً ما؟
ردّت عليه المرأة العجوز: نعم.. لقد سمعت عن شخص لا يمكن أن يقتل ببندقية واعتقدت انه كان يجب علي أن أخبرك عنه.
فسألها الصبي: ومن هذا الشخص؟
- إنه رجل طاعن في السن يعيش هناك فوق على سطح القمر.
فقال الصبي: إذن علي أن أبحث عنه لأنني لا أريد أن يكون معي أشخاص من الذين يمكن أن يقتلوا ببندقية.
وعندها سحب مفتاحاً كهربائياً فتحول رجله الآلي العملاق إلى صاروخاً ضخماً وانطلق به نحو القمر. وهناك في الأعلى على سطح القمر اضطر الصبي أن يبحث عن الرجل العجوز لمدة طويلة حتى تمكن من العثور عليه أخيراً. وكان الرجل العجوز يجلس وراء منظار تلسكوبي ينظر إلى الكوكب الأزرق في الأسفل. فسأل الصبي الرجل العجوز: هل أنت الرجل الذي لا يمكن قتله ببندقية؟
فقال الرجل العجوز: أظن ذلك.
- وإلى ماذا تنظر إليه بمنظارك؟
- أنا أدرس حال الناس هناك في الأسفل.
فرد الصبي متسائلاًً: أتعتقد أنه يمكنني البقاء معك؟
فقال الرجل العجوز: ربما.. و ما هو الشيء المميز فيّ؟
- لأنني لا أريد أن أبقى مع شخص يمكن أن يقتل. عندما مات والدي بكيت وذرفت كل ما لدي من دموع في حدقتيّ. كان بإمكاني أن يكون لدي كلباً ولكن ما الحيلة إذا ما قتل فإنني سوف أموت من البكاء عليه. وكان بإمكاني أن أبقى مع امرأة عجوز أو فتاة صغيرة ولكنهم جميعا غير محصنين من الرصاص، وإذا ما قتلوا فإني سأضطر إلى الموت بكاءً ونحيباً.
فقال الرجل العجوز: هذا صحيح، يمكنك أن تبقى معي ولا أحد يمكنه أن يقتلني لأنه لا يوجد هنا من يملك سلاحاً.
وسأله الصبي: وهل هذا هو السبب الوحيد؟
فقال الرجل العجوز: نعم. هذا كل ما في الأمر.
- ولكنني جلبت بندقيتي معي.
فقال الرجل العجوز: إنه شيء سيء جداً. والآن لا يمكنك أن تبقى معي لأن سلاحك يمكن أن يقتلني.
فقال الصبي: إذن علي أن أرحل الآن عائداً إلى كوكبي.
- أجل.
فقال الصبي: إنه لشيء مؤسف حقاً.
وسأله الرجل العجوز: هل أنت متأسف؟
فقال الصبي: نعم.. أنا أتمنى أن أبقى هنا.
فقال الرجل العجوز: ربما يمكنك أن تتخلص من بندقيتك.
فقال الصبي: ربما.
فقال الرجل العجوز: ومن ثم يمكنك البقاء معي بعد كل هذا.
وقال الصبي: ربما.. وماذا أفعل بعد ذلك؟
- يمكنك أن تنظر من خلال المنظار. ومن المحتمل يمكنك أن تجد لماذا هؤلاء الناس في الأسفل في أتون حروب وصراعات لا تنتهي.
- ولماذا يتقاتلون في حروب؟
- ولا أنا أعلم ذلك. أنا أفترض هناك شيء ما يمكن عمله بدون دراية كافية بما يدور في ذهن الآخر. هناك الكثير منهم ممن حياتهم ومعيشتهم معقدة جداً بحث لا يعرفون كيف أن أفعالهم سيكون لها الأثر الفعال في الآخرين. أظن أنهم لا يعرفون من أين يأتي اللحم الذي يتناولونه ولا أين يذهب الخبز الذي يخبزونه. وأعتقد أنهم لا يعرفون فيما أن الحديد الذي يستخرجونه من الأرض يتم استخدامه في صناعة البلدوزرات أو السفن. ربما أنهم لا يعرفون أن اللحم الذي يأكلونه يتم أخذه من أناس آخرين. لو أنهم يرون أنفسهم من فوق لربما كانوا سيعون أشياء كثيرة بشكل أفضل.
وقال الصبي: إذن يجب على شخص ما أن يبين لهم ذلك.
فقال الرجل العجوز: ربما.. ولكنني رجل طاعن في السن ومتعب جداً لعمل كهذا.
لقد ترك الصبي بندقيته تسقط من القمر في الفضاء إلى كوكبه، وهناك تحطمت إلى قطع متناثرة هنا وهناك. ولكن الصبي مكث زمناً طويلاً جداً مع الرجل العجوز على القمر ونظر ودرس من خلال المنظار كيف يعيش الناس في الأسفل. وربما في يوم من الأيام كان سينزل إلى الأسفل وسيشرح لهم ما يفعلونه كان خطأ جسيماً.
هناك بعيدا خلف النجوم يبدو كل شىء مختلفا.
وحينما نبتعد أكثر يبدو أيضا كل شىء مختلفا كل الاختلاف عن هناك وعن هنا.
ولكن حين نريد أن نطير بعيدا ، بعيدا جدا ، إلى أبعد مكان ، حيث كل شىء مختلف عن أى شىء ، عندئذ ، من الجائز أن تتشابه الأشياء مرة أخرى مع كل شىء هنا.
هناك ، فى هذا المكان البعيد يوجد كوكب كبير مثل كوكب الأرض يعيش فوقه أناس يشبهوننا تماما فيما عدا أن لونهم أزرق.
ومن المحتمل أن حربا عنيفة قد اشتعلت فوق هذا الكوكب ومات كثير من الناس الزرق ، وخلفت الحرب وراءها كثيرا من الأطفال الأيتام.
وفوق أطلال بيت من البيوت دمرته القنابل جلس صبى صغير أزرق يبكى فراق والده ووالدته. جلس طويلا هكذا يبكى ثم سكت عن البكاء بعد أن أفرغت عيناه كل الدموع.
نهض الصبى من جلسته ، فرد ياقة قميصه ووضع يديه فى جيب بنطلونه وبدأ فى السير فى حزن عميق ويأس. إذا رأى طوبة يقذفها بعيدا ، وإذا رأى وردة يدوس فوقها.
صادفه كلب صغير وهو يمشى. نظر إليه الكلب وهز ذيله ثم أخذ يلف حول الصبى مقتربا منه وكأنما قرر أن يتبعه فى أثناء سيره.
قال الصبى للكلب: "اذهب بعيدا عنى . يجب أن تبتعد. فأنا أخشى أن أعطف عليك وأحبك إن بقيت بجانبى. وأنا لا أريد طوال حياتى أن أحب أحدا."
نظر إليه الكلب وهز ذيله مرة أخرى. التفت الصبى فوجد بندقية ملقاة بجوار جندى فارق الحياة. رفع الصبى البندقية من فوق الأرض ولوح بها للكلب وقال له : "هذه البندقية من الممكن أن تصيبك."
خاف الكلب واندفع يعدو بعيدا.
قال الصبى للبندقية: "سآخذك معى. ستكونين الرفيق الطيب لى." وأطلق الصبى طلقة من البندقية فى اتجاه شجرة ميتة.
مضى الصبى فى طريقه وفى أثناء سيره وجد بقايا طائرة صغيرة ذات مراوح ملقاة على الأرض، فدخل فيها وحاول أن يدير محركاتها فوجدها تعمل. قال الصبى لنفسه: "إن معى الآن بندقية وطائرة مروحية. من الآن سأعتبرهما أهلى. كان من الممكن أن يكون لدى كلب وديع.. لكنى خشيت أن تصيبه طلقة بندقية فيموت ، وإذا حدث هذا فسأبكى كثيرا وأتحسر على فراقه."
طار الصبى بطائرته حتى رأى منزلا يتصاعد منه الدخان. قال الصبى محدثا نفسه: "هناك إذن من يعيش بداخل هذا البيت."
ثم طار حول البيت ونظر من خلال النافذة فوجد سيدة عجوزاً تقوم بطهى الطعام. حط الصبى بطائرته أمام المنزل وأخذ البندقية ودق على الباب.
خرجت السيدة العجوز فقال لها الصبى: "إن معى بندقية وعليك أن تعطينى شيئا آكله." قالت السيدة العجوز للصبى: "سأعطيك طعاما تأكله ولكن .. هل لك أن تضع البندقية التى معك فى هدوء بجانبك؟"
قال الصبى لها فى غضب: "لاتكونى ودودة معى ، فبندقيتى يمكن أن تصيبك." فأعطته السيدة العجوز طعاما وخرج الصبى من عندها وطار مرة أخرى بطائرته إلى أن استقر فى مخبأ بيت مهجور وعاش فيه. وحينما كان يشعر بالجوع يطير بطائرته إلى أن يلمح شخصا، فيهدده بالبندقية ويأخذ منه ما يكفيه من طعام.
وبين الحين والآخر كان الصبى يطير بطائرته إلى ميدان القتال ويجمع بقايا الآلات والعربات الملقاة هناك بعد الحرب ويذهب بها إلى مخبأه.
فكر الصبى وقال: "سأصنع من هذه البقايا إنسانا آليا ضخما. سيكون طويلا ويزن آلاف الأرطال وفوق رأسه سأثبت كابينة القيادة وعندئذ سأكون قويا ولا يمكن لأحد أن يؤذينى."
وفى أثناء انهماكه فى العمل مرت فتاة جميلة بجوار المخبأ فرآها الصبى وخرج لها ببندقيته وقال لها: "يجب أن تذهبى بعيدا عن هنا، فبندقيتى يمكن أن تصيبك".
قالت له الفتاة: "أنا لا أريد منك شيئا .. لقد خرجت لأرى إن كان عيش الغراب قد نما فى الأرض مرة ثانية."
فقال لها الصبى: "يجب أن تبتعدى .. أنا لا أريد أحدا بجوارى."
سألت الفتاة الصبى: "هل تعيش وحدك هنا؟"
قال لها الصبى: "لا.. يوجد معى بندقية وطائرة مروحية وهما عائلتى.. وقريبا سيكون لدى إنسان آلى ضخم."
سألته الفتاة: "ألا يوجد معك كائن حى؟"
قال الصبى: "كان من الممكن أن يكون لدى كلب ظريف ، ولكن .. لو حدث أن أحدا قتل الكلب سأبكى عليه ومن الممكن أن أموت حزنا."
فقالت الفتاة: "أنا مثلك أيضا فقدت عائلتى ومن الممكن أن نبقى معا.. ما رأيك؟"
قال لها الصبى محتدا: "لا أريد أن أبقى مع أحد من الممكن أن تصيبه بندقية."
فقالت له الفتاة ضاحكة: "فى هذه الحالة لابد أن تبحث عن شخص لا تستطيع طلقة بندقية أن تصيبه." وتركته وحده وذهبت إلى حال سبيلها.
ومضت الأيام والصبى يصنع الإنسان الآلى الضخم حتى فرغ منه ثم ثبت فوق رأسه مفتاح القيادة. وقف الصبى بداخل الإنسان الآلى وبدأ يسير به مخترقا طرقات المدينة. وأينما يذهب يصرخ الناس خوفا حين يرونه ويبتعدون مسرعين ولكنهم كانوا لا يستطيعون الهرب من الصوت المرعب الذى يحدثه. فقد وضع الصبى فى كابينة القيادة مكبرا للصوت، وكلما كان يتكلم يخرج من فم الإنسان الآلى صوت غليظ كالزئير. ويصرخ الصبى فى الميكروفون بأعلى صوته ويقول:
"هل يوجد هنا أحد لا تستطيع طلقة بندقية أن تصيبه؟"
وفى كل مكان يمشى فيه الإنسان الآلى يفر الناس منه هاربين ولم يستطع الصبى أن يجد الشخص الذى لا تستطيع طلقة بندقية أن تصيبه.
وفى يوم من الأيام وبينما هو يسير بالإنسان الآلى لمح شخصا يقف تحت قدميه ولم يفر هربا منه، ولكنه بقى مكانه يصيح بكلمات والصبى من مكانه المرتفع لا يسمع ما يقوله هذا الشخص.
قال الصبى لنفسه: "ربما يكون هذا الشخص هو من أبحث عنه .. من لا تستطيع طلقة بندقية أن تصيبه."
خرج الصبى من داخل الإنسان الآلى يستطلع الأمر. وعندما وقف على الأرض لم يكن هناك سوى السيدة العجوز، تلك المرأة التى أعطته طعاما حين مر بكوخها وكان جائعا.
فسألها الصبى: "هل تريدين أن تقولى لى شيئا؟"
قالت السيدة العجوز. "نعم .. لقد سمعت عن أحد الأشخاص لا تستطيع طلقة بندقية أن تصيبه. ورأيت أننى يجب أن أقول لك هذا."
فسألها الصبى: "ومن هو هذا الشخص؟"
قالت السيدة العجوز: "إنه رجل كبير السن يعيش فوق سطح القمر."
فقال الصبى: "إذن يجب أن أبحث عنه لأننى لا أريد أن أبقى مع أحد يمكن أن تصيبه بندقية."
فقام الصبى ووضع رافعة حول الإنسان الآلى، فتحول الإنسان الآلى إلى صاروخ آلى وطار به نحو القمر.
هبط الصبى فوق القمر وأخذ يبحث طويلا حتى وجد فى النهاية شيخاً يجلس خلف تلسكوب كبير ينظر من خلاله إلى أسفل على الكواكب الأخرى.
سأل الصبى الشيخ: "هل أنت ذلك الشخص الذى لا تستطيع طلقة بندقية أن تصيبه؟"
قال الشيخ: "أعتقد هذا."
سأله الصبى: "وماذا ترى من خلال هذا التلسكوب؟"
قال الشيخ: "أنا أراقب الناس الذين يعيشون على الكواكب الأخرى."
سأل الصبى: "هل يمكن أن أبقى معك؟"
فأجاب: "نعم ، ممكن .. ولكن لماذا تريد أن تبقى معى؟"
قال الصبى: " لأننى لا أريد أن أبقى مع أحد يمكن أن تصيبه بندقية. ولقد سألتك إن كانت طلقة البندقية يمكن أن تصيبك أم لا .. فقلت أنت لا. إذن .. أنت الشخص الذى أبحث عنه."
قال الرجل: "ولماذا تبحث عن هذا الشخص؟"
قال الصبى: "إن لذلك قصة طويلة. فعندما مات والداى ذرفت من الدمع الكثير حتى لم يبق فى عينى دموع. وكان يمكن أن يكون لدى كلب أليف ولكن .. إن قتله أحد، سأبكى حزنا عليه. وكان من الممكن أن أبقى مع سيدة عجوز أكرمتنى وأعطتنى طعاما من عندها وكان من الممكن أن أكون صديقا لفتاة جميلة أرادت أن نصبح أصدقاء. ولكن .. كل هؤلاء ليست لديهم وقاية ضد طلقات البنادق ، وإذا أصيبوا بطلقة بندقية، سأموت أنا أيضا من فرط حزنى عليهم."
قال الشيخ للصبى: "لقد فهمت الآن كل شىء. حسنا.. من الممكن أن تبقى معى. فأنا لا يستطيع أحد أن يصيبنى بطلقة بندقية لأنه لا يوجد هنا بنادق."
فقال الصبى: "هل من أجل هذا السبب فقط لا تصيبك بندقية؟"
أجاب الرجل قائلا: "نعم .. لهذا السبب فقط."
فقال الصبى: "ولكنى أحضرت معى بندقيتى."
قال الشيخ: "يا للأسف .. الآن لن تستطيع أن تبقى معى. فالبندقية التى معك من الممكن أن تصيبنى."
قال الصبى: "هذا يعنى أننى يجب أن أذهب من هنا."
قال الرجل: "نعـم."
ردَّ الصبى قائلا: "يا للأسف."
سأله الرجل: "هل تشعر بالحزن؟"
أجاب الصبى: "نعم .. أشعر بالحزن. فكم وددت أن أبقى هنا فى هذا الكوكب الجميل البعيد عن الحروب والأخطار."
قال الشيخ للصبى: "تستطيع أن تفعل ذلك لو تخلصت من بندقيتك وألقيتها بعيدا."
سرح الصبى فيما قاله الرجل وردد قائلا: " نعم ، هذا ممكن. وماذا يمكن أن أفعل هنا إذا بقيت معك ؟"
قال الشيخ: "يمكن أن تنظر معى من خلال هذا المنظار إلى الكواكب الأخرى ثم تفهم لماذا توجد هناك حروب بين البشر."
فسأل الصبى الرجل: " ولكن حقا .. لماذا يشعل الناس الحروب ؟"
أجاب الرجل قائلا: "أنا لا أعرف تماما لماذا تندلع الحروب. لكن من الجائز أن البشر لا يفهمون بعضهم بعضا بدرجة كافية. ربما لأنهم أصبحوا كثيرين وحياتهم أصبحت معقدة وتملكهم الطمع حتى إنه لا يوجد فيهم من يقدِّر نتائج أفعاله. ربما لا يعلمون من أين تأتى اللحوم التى يأكلونها فى بطونهم وأين يذهب الخبز الذى يخبزونه. ربما لا يعرفون إذا كان الحديد الذى يستخرجونه من باطن الأرض سيصنعون منه حفارا يحفر الطرق أم سيصنعون منه القنابل. ربما لا يعرفون أن بعضهم يأكل طعام البعض الآخر.
وهنا قال الصبى للرجل: "إذن لابد لأحد أن يرشدهم ويكشف لهم الحقيقة."
قال الرجل: "من الجائز أن يكون هذا هو الحل. ولكنى كما ترى أصبحت شيخا متقدما فى العمر وضعفت صحتى ولا أستطيع أن أقوم بهذا العمل."
وهنا ألقى الصبى بندقيته بعيدا فرآها تسقط فى الفضاء الواسع وتتحطم فوق أحد الكواكب ثم صاح قائلا: "أستطيع أن أفعل ذلك فى يوم من الأيام."
وعاش الصبى زمنا طويلا مع الشيخ فوق كوكب القمر يتعلم وينظر إلى أسفل نحو الكواكب الأخرى من خلال التلسكوب ويدرس أحوال الناس الذين يعيشون فوقها.
وربما يكون فى يوم من الأيام قد طار إلى كوكب من تلك الكواكب ليرشد الناس إلى الصواب ويجعلهم يرون الأخطاء التى يرتكبونها فى حق بعضهم البعض.
ذات مرة كان يعيش بعض الناس على كوكب صغير من الذين يعملون بجد ومشقة وآخرين على العكس منهم. وعليه فإن هناك فئة قليلة ممن يعملون بنشاط وفئة قليلة ممن كانوا كسولين جداً، ويمكن القول أنه يوجد ذلك كما في أي مكان آخر على الكون. ما عدا أن الكسالى من هؤلاء والمثابرين منهم، كانوا يشتركون في رمي كل شيء ينمو وخصوصاً الأنواع المتنوعة من الجزر، في كدس كبير ومن ثم يتشاركون بكل شيء موجود في الكدس. وهذه ليست الطريقة المتعارف عليها في أي مكان آخر.
فوق كوكب صغير جدا كان يعيش جماعة من الشطار وجماعة أخرى من الكسالى . وإذا كان هذا الأمر يمكن أن يحدث فى كل زمان ومكان ، فالجديد فى هذا الكوكب أن الكسالى والشطار كانت لديهم عادة عجيبة. كانوا يعيشون على زراعة الجزر ويجمعون ما يزرعونه من أصناف الجزر المتنوعة فى كومة كبيرة فى حقل كبير مشترك يأكلون منه جميعا.
وذات يوم قالت جماعة من الشطار: " يكفى هذا .. إننا نكد ونتعب وحدنا ثم يأتى الآخرون الكسالى المستلقون فى الشمس على ظهورهم طوال اليوم ويشاركوننا محصولنا من الجزر." وبدأت هذه الجماعة تحتفظ بمحصولها من الجزر داخل حقولها الخاصة ، تأكل منه وحدها ولا تأتى به لتلقيه فى الحقل الكبير المشترك.
أما الكسالى فقد هزوا أكتافهم كأنما لا يعنيهم شئ واستمروا فى التردد على الحقل الكبير ليحصلوا على طعامهم من الجزر.
ثم فكرت جماعة أخرى من الشطار وقالت: "نريد أن نحتفظ نحن أيضا بالجزر الذى نزرعه لأنفسنا لأنه نتيجة مجهودنا وحدنا."
على حين قالت جماعة أخرى من الكسالى بعد التفكير: "علينا أن نفعل نحن أيضا مثلهم".
ومع مرور الوقت أصبح كل واحد يحتفظ بمحصوله من الجزر أمام كوخه. وعندما كان يرغب فى صنف آخر من الجزر لا يزرعه فى حقله ، يسرع ويستبدله من حقل شخص آخر وهكذا.
وبدأ الناس يروحون ويجيئون. يقفون ساعات طويلة بعد العمل يتبادلون أصناف الجزر فيما بينهم حتى يحصل كل واحد على الصنف الذى يرغب فيه أو يحتاجه.
وقال الكسالى الناعسون فيما بينهم: "ماذا حدث .. إن هذه العادات لم نكن نألفها من قبل. الآن لا يوجد حقل كبير مشترك نتطفل عليه".
وبدأ كل واحد فيهم يفكر بأسلوب جديد. فهناك من فكر فى أن يعمل ويزرع الجزر. ولكن ذلك لم يكن أمرا سهلا. فعندما كان يختار حقلا ليزرع فيه جزرا ، كان يظهر له صاحب الحقل وينهره ويطرده بعيدا عن حقله.
ولجأ البعض الآخر من الكسالى إلى السطو على حقول الأغنياء وأخذ ما يحلو لهم من أصناف الجزر. وكانوا يبررون ذلك قائلين: "إننا كنا دائما نأخذ ما نحتاجه من الجزر من الحقل الكبير المشترك ، وإذا كان الحال الآن هو وجود أكثر من حقل ، فلنعتبرها كلها حقولا مشتركة ولنأخذ ما نستطيعه منها."
وبالطبع انزعج الأغنياء من أفعال الكسالى. فبدأ بعضهم فى بناء أسوار حول حقولهم المزروعة بالجزر. وسرعان ما فعل الجميع نفس الشىء عندما وجدوا أن الكسالى لا يزالون يتمسكون بالعادة القديمة ويستبيحون أخذ الجزر من الحقول التى ليس لها أسوار.
ولم يمض وقت طويل حتى بنى كل شخص سورا حول حقله المزروع بالجزر.
وكانوا يتبادلون أصناف الجزر مع بعضهم البعض ويمارسون أعمالا أخرى لم يكونوا يقومون بها من قبل ، مثل مراقبة محاصيلهم وحراستها وتحصينها ضد السرقة وإصلاح وصيانة أسوارهم حتى لا يتسلقها أحد.
وبدأ البعض فى التذمر والاحتجاج قائلين: " قديما كنا نجتمع فى مودة بعد العمل فى الحقل الكبير المشترك وكنا نطلق النكات ونحكى الحكايات ونلعب ألعاب القفز. أما اليوم فنحن نسرع إلى بيوتنا ونلبد فيها ونحرس الجزر ونصلح الأسوار. وفى الصباح نكون منهكين ولا نستطيع زراعة الجزر بمهارة. اليوم لدينا مهام كثيرة عن الأمس لكن محصول الجزر لا يزيد".
وهنا اقترح البعض العودة مرة ثانية الى العادة القديمة ، حيث الحقل الكبير المشترك الذى يأكل منه الكل وقالوا مبررين ذلك: " إن إطعام بعض المتطفلين الكسالى أفضل من أن نرهق أنفسنا دوما بأمور المراقبة والاستبدال وحراسة المحاصيل وصيانة الأسوار."
أما الأثرياء من أهل الكوكب فقد كانت لديهم وجهة نظر أخرى إذ قالوا: "إن العودة إلى العادة القديمة تعنى السماح بمبدأ التطفل، وهذا يجعل الكل يتواكل ويتكاسل ولا يرغب فى زراعة الجزر بجدية وسوف يؤدى ذلك إلى أن نموت كلنا من الجوع."
وردَّ عليهم المدافعون عن العادة القديمة قائلين: " إن الأمر ليس كما تتصورون. فالتكاسل والاستلقاء طوال اليوم فى الشمس بدون عمل شئ ممل, صدقونا .. إن الكسالى فوق هذا الكوكب ليسوا كثيرين، وزراعة الجزر هى بالفعل شئ مسل".
وتمسك الأثرياء بموقفهم قائلين: " لا.. إن زراعة الجزر ليست من قبيل التسلية. إنه شئ يحتاج الى مجهود. تستطيعون إن شئتم أن تتقاسموا مع الكسالى محصولكم من الجزر. أما نحن فلن نزيل أسوارنا."
ويبدو أن الطبقة المتوسطة تأثرت أيضا برأى الأغنياء وقالت: " إذا كان الأثرياء الذين لديهم الكثير لا يريدون العودة إلى العادة القديمة، فما بالنا ونحن لا نحتكم على الكثير ليأتى الكسالى ويتقاسموه معنا. إننا نفضل أيضا ألا نعود إلى العادة القديمة وأن نحتفظ بأسوارنا."
وقال الفقراء: " لم يبق إلا نحن لنجعل حقولنا مفتوحة أمام الكسالى ليتقاسموها معنا. لكننا لن نرضى بذلك لأن نصيبنا سيصبح قليلا جدا ولن نقدر على الاستمرار فى هذا الوضع. سنضطر نحن أيضا إلى أن نحتفظ بأسوارنا".
وعندئذ أغلق كل واحد فمه.
والحقيقة أن معظمهم أدرك أن محصول الجزر لن يزيد ويتكاثر ربما لأن أعباءهم تكاثرت. ومع ذلك .. لم يكن فى مقدورهم العودة إلى العادة القديمة مرة ثانية.
وفى أثناء ذلك ظهرت اتفاقات جديدة . ذهب البعض من أصحاب الحقول الصغيرة إلى البعض الآخر من الأغنياء أصحاب الحقول الكبيرة وقالوا لهم: " أنصتوا إلينا .. إذا أعطيتمونا كل يوم حفنة جزر، سنقوم بحراسة محاصيلكم بأنفسنا".
وجاء آخرون بفكرة أخرى وقالوا: " سوف نقوم بإصلاح أسواركم فى مقابل أن تعطونا جزرا".
وآخرون أخذوا يتنقلون من بيت إلى بيت قائلين: "سوف نقوم عنكم بمهمة تبادل أصناف الجزر فى مقابل أن نحتفظ بجزرة واحدة من كل خمس جزرات نستبدلها لكم".
ومضت الأمور هكذا لفترة حتى تنبه البعض مرة أخرى وقال: "المفروض أن يكون لدينا الآن وقت أكبر للراحة. لكن للأسف علينا أن نستنفد كل الوقت فى زراعة الكثير من الجزر حتى نستطيع أن ندفع أجور من يقومون بإصلاح الأسوار وأجور من يقومون باستبدال أصناف الجزر لنا وأجور من يحرسون المحصول منعا للسرقة".
ومرة أخرى نادت أصوات بإزالة الأسوار والعودة مرة أخرى إلى العادة القديمة. ولكن من العجيب أن الذين أصبحوا يعارضون تلك الفكرة لم يكونوا أغنى الأغنياء ولكنهم كانوا أفقر الفقراء.
فقد صاح الذين يقومون بإصلاح الأسوار: "إنكم بذلك تريدون أن تسلبونا أعمالنا.."
وصاح حراس الليل: "من أين نعيش إذا لم نعمل بالحراسة؟"
وصاح الذين يستبدلون الجزر: "هل يرضيكم أن نموت جوعا إذا لم نجد ما نستبدله؟"
وزادت حيرة الجميع ..
وبقيت الأمور كما هى ، واستقرت العادة الجديدة.ولكن في يوم ما قالت فئة من الذين يعملون بجد: نحن نتعب ونعرق طول اليوم ومن ثم يأتي الآخرون من الذين يستلقون على ظهورهم طول النهار تحت الشمس ويأتون مسرعين ويرغبون في أكل جزرنا.
وبدلاً من أن يرموا ما يجنوه من الجزر في الكدس الكبير للجماعة والمجتمع فإنهم يحتفظون به في بيوتهم ويطعمون أنفسهم إلى أن يصبحوا بدينين.
لقد هزّ الكسالى الحقيقيين أكتافهم مستهجنين مما سمعوه واستمروا في الأكل من الكدس الكبير وبالطبع أكلوا أكثر مما جلبوه بأنفسهم إلى الكدس الكبير. وقد لاحظ أشباه الذين يعملون بجد وأشباه الكسالى بأن كل شخص الآن يحصل على أقل مما كان يحصل عليه قبلاً بالرغم من أن العاملين الحقيقيين كانوا يجلبون من أنواع الجزر أكثر مما يأكلون.
وعندئذ قال أشباه المجدّين: وعليه فإننا سنحتفظ بجزرنا أيضاً.
وعندها توقفوا عن رمي جزرهم في الكدس الكبير وبدلاً من ذلك عمل كل واحد منهم في بيوتهم كدساً صغيراً خاصاً به. وفعل أشباه الكسالى نفس الشيء وقالوا للكسالى الحقيقيين: ليس لدينا خيار آخر.
والآن لكل منهم كدس الجزر الخاص بهم أمام بيوتهم التي تشبه بيوت الريف وعندما يريدون أكل نوع معين من الجزر لا يملكونه فإنهم سيضطرون لإمكانية المتاجرة مع الآخرين.
وعلى نحو جيد سارت الحياة بشكل طبيعي وكان الناس يسيرون جيئة وذهاباً، وبعد العمل كانوا مشغولين لساعات بالتجارة بالجزر حتى يكون لكل منهم في بيوتهم كل أنواع محصول الجزر الذي يحتاجونه أو يعتقدون أنهم يحتاجونه.
ويقول الكسالى الحقيقيين لبعضهم الآخر: هذا شيء جيد!
وبالنسبة إليهم لم يعد هناك من كدس مجتمعي يمكن أن يتطفلوا عليه. ولكن كل واحد منهم تعلم درساً مختلفاً من هذا الحال. والبعض منهم قال: حسن، أظن أنه سيكون لزاماً علي أن أعمل أكثر.
ولكن هذا ليس بالشيء السهل لأنه عندما يجد مثل هذا الكسول الحقيقي الذي تم إصلاحه حقلاً ليزرع الجزر فأنه عادة ما يكون من يقول: هيه! أنا كنت دائماً أزرع الجزر هنا. إنه حقلي.
ولكن الآخرين ذهبوا إلى بيوت الأغنياء وأخذوا من كومات الجزر ولا يهم ما يحدث لأنهم كانوا يشعرون بالحاجة للأكل.
وقالوا: نحن دائماً نأخذ من الأكداس المجتمعية. وفيما أنه الآن يوجد الكثير من الأكداس بدلاً من واحد فإن ذلك يعني وفرة جيدة من الأكداس . وعلى أية حال سنأخذ ما نريد منها.
وبالطبع فإن الأغنياء لم يرق لهم كثيراً هذا التصرف والبعض منهم بدأ ببناء جدران وأسيجة حول أكداس الجزر. وفي مدة قليلة كان كل شخص تقريباً قد بنى جداراً حول كدسه لأنه كان كلما يبنون أكثر من الأسيجة كلما أراد من الكسالى الحقيقيين وبشدة أن يرجعوا إلى الطريقة القديمة حيث يذهبون مباشرة إلى الأكداس التي كانت بدون أسيجة ويأخذون ما يرغبون فيه منها. وقبل انقضاء مدة طويلة كل من كان لديه كدس كان عنده سياج حوله. والآن بعد عمل ذلك لم يكونوا يتعاملون بالتنوع التجاري فحسب بل كذلك بإصلاح وتطوير الأسيجة مع حراستها ومراقبتها والتأكد من أن لا يكون هناك من يعبث بها ويتسلق عليها.
وبسرعة كبيرة بدأ البعض منهم بالتذمر وقالوا: لقد كنا جميعاً معتادين على الالتقاء بعد العمل عند الكدس الكبير وإطلاق النكات ولعب وثبة الضفدع. الآن بعد العمل، نبقى فقط ملازمين للبيت ومراقبة محصولنا من الجزر وتصليح أسيجتنا. وفي الصباح التالي، نكون قد أنهكنا من التعب، حتى أنه لا يمكننا زراعة الجزر بشكل صحيح. ولعدة أسباب فإننا الآن لدينا الكثير لننجزه عما اعتدنا عليه سابقاً، ولكن لم يعد إنتاج الجزر وفيراً كما كان سابقاً.
اقترح البعض منهم أن يعود الجميع إلى إتباع الأساليب القديمة مع وجود الكدس الكبير. إنه من الأفضل أن يتم إطعام قلة من الكسالى الحقيقيين المتسكعين من أن نتعب أنفسنا بشكل مستمر بالتجارة وحراسة المحصول وتصليح الأسيجة!
ولكن الأغنياء منهم قالوا: كلا.. لو أننا عدنا إلى الأساليب القديمة عندها سيتم السماح لهؤلاء المتسكعين الوضيعين بالأكل، ومن ثم سيرغب الجميع بالتسكع ولن يوجد من يزرع الجزر بعد ذلك وسوف نجوع كلنا!
فقال الآخرون: ولكن هذا ليس ما سيحدث. إنه لشيء مضجر وممل لمعظم الناس للاستلقاء على ظهورهم وتعريض أنفسهم للشمس. صدقونا لا يوجد إلا القليل من الناس ممن هم كسالى أصليين. في الحقيقة زراعة الجزر شيء ممتع!
وقال أشباه الفقراء: حسن، لو أننا الوحيدون الذين سيشاركونهم عندها سيكون القليل جداً لكل شخص. لا يمكننا أن نذهب بعيداً في هذا الأمر. نحن نخشى من أنه سيكون لزاماً علينا أن نبقي على أسيجتنا.
ولذلك لم يفلح الأمر في هذا الوقت وحتى بالرغم من أن معظمهم كانوا يعلمون حقاً أن هناك لكل شخص الكثير لينجزه ولم يعد هناك الكثير من الجزر وأنه لم يعد بإمكانهم العودة إلى الأيام الخوالي وإتباع الأساليب القديمة.
وحدثت بدلاً من ذلك أشياء كثيرة ومهمة. ذهب البعض ممن ليس لديهم حقول كبيرة إلى البعض من الأغنياء وقال أحدهم: اسمعوا.. لو أعطيتموني قليل من الجزر كل يوم فسأحرس أكداسكم بالمقابل.
والبعض الآخر ارتقى إلى أن يقدم اقتراحاً متميزاً وتقدم بعرض وقال: سأصلح السياج لكل شخص يعطيني جزراً.
ومازال الآخرون يذهبون من بيت إلى بيت ويقولون: أعطني قليلاً من الجزر وسأذهب وأتاجر بها لكم واحتفظ بخمس الكمية من الجزر!
وهكذا جرت الأمور لفترة ومن ثم بدأ بعضهم يحك رأسه ويقول: في الحقيقة سيكون لدي وقت أكثر، ولكن الآن يجب علي أن أزرع جزراً أكثر لكي أتمكن من دفع أجور تصليح السياج والحارس الليلي والتاجر الذي يبيعه في الأسواق.
ومرة أخرى اقترح البعض منهم بأن يكون الرجوع إلى الأيام الخوالي وإتباع الأساليب القديمة وهدم الأسيجة. ولكن الغريب في الأمر أن ليس الأغنياء فقط من هم ضد هذه الفكرة فحسب بل الأكثر فقراً أيضاً. وصرخ مصلحي الأسيجة قائلين: هل تريدون أن تسلبونا عملنا؟
وصاح الحراس الليليين قائلين: كيف ستجعلون تحصيل الرزق؟
وقال التجار أيضاً: هل تريدوننا أن نجوع؟ّ
وباستنكار شديد راح الناس يؤدون أعمالهم والأشياء على الطريقة الجديدة...
لماذا هذا الرجل
ينظر إلي بهذا الشكل؟
هل هو خائف مني؟
لماذا ذلك الرجل
خائف مني؟
هل يعتقد أنني أريد أذيته والإساءة إليه؟
لماذا..
هل يعتقد بأنني أريد أذيته؟
أنا لا أؤذي أحداً أبداً!
أنا لا أؤذي أحداً أبداً، إلا إذا أراد أن يؤذيني!
فيما لو أن هذا الرجل يعتقد أني أريد أذيته
وذلك لأنه يعرف:
أنا أؤذي أي شخص يؤذيني.
لذلك: لا بد أنه يريد أن يؤذيني!
لذلك أعتقد بأني سأذهب إلى الأعلى هناك والكمه على فمه،
لذلك لا يمكن أن يؤذيني.
أوه!
كانت قبضته أسرع من قبضتي!
والآن أنا هنا على الأرض.
ولكن ألم أخبرك الآن،
ترى .. لماذا ينظر إلىَّ هذا الصبى فى ريبـة ؟
هل يخاف منى ؟
ثم لماذا يشعر بالخوف منى .. أيعتقد أننى سوف ألحق به الأذى ؟
لكن ..
لماذا يعتقد أننى سألحق به الأذى .. إننى لا أؤذى أحدا
إننى لا أؤذى أحدا .. إلا من يريد أن يصيبنى بأذى ..
حسنا ..
إذا كان يعتقد أننى سأصيبه بأذى ..
فلابد أنه يعلم أننى أؤذى كل من يصيبنى بأذى ..
لكنى أعتقد أنه يريد أن يؤذينى ..
من الأفضل إذن أن أقترب منه وأسدد له لكمة فى وجهه ..
آه .. أه ..
كانت قبضته أسرع من قبضتى
هأنذا ملقى فوق الأرض ..
لقد كنت على حق حينما توقعت أنه يريد أن يصيبنى بأذى !نحن بلد مسالم
وسوف لن نهاجم أحداً.
إلا إذا أحدهم هاجمنا.
كل من لا ينوي
مهاجمتنا،
لا يحتاج إلى الخوف منا مهما يكن.
كل من يريد أن يحاول
حماية نفسه منّا
لا بد من أن تثبت بأنه يخاف منا.
وكل من يخاف منا،
أن يثبت
بأنه ينوي مهاجمتنا.
إذن أنت ترى بأنه من الواضح
يتوجب علينا مهاجمة أي شخص
نحن بلد مسالم
لا نهاجم أحدا إلا إذا بدأنا هو بالهجوم
فإن لم يكن فى نية أحد أن يهاجمنا ..
فليس هناك سبب لأن يخاف منا
ومن يحاول أن يسلح نفسه ويتحصن
فهو يبرهن أنه يخشانا ..
وأن فى نيته الهجوم علينا ..
إذن .. نفهم من هذا
أن علينا أن نبادر بالهجوم
على كل من يسلح نفسه ..
ويقيم التحصينات الدفاعية فى مواجهتنا..!كان يعيش على الكوكب هورتس كائنات صنعوا بأشكال من التفاح والخوخ والكمثرى والتوت البري. وكان أهل التفاح يعيشون على صلصة التفاح وفطيرة التفاح وهلام التفاح وكعك التفاح. وكذلك بالنسبة لأهل الخوخ فقد كانوا يعيشون على صلصة الخوخ وفطيرة الخوخ وهلام الخوخ وكعك الخوخ. وكان الشيء نفسه بالنسبة لأهل الكمثرى وأهل التوت البري.
ولفترة طويلة كانت الأمور تسير بشكل جيد، ولكن ذات يوم شعر أهل الكمثرى بأنهم قد ظلموا. ومن ثم قال أحدهم: أتعرفون ماذا يجري! يجب علينا أن نكون لصوصاً!
- لصوصاً؟! ما هذا الذي تقوله؟
- ببساطة.. في الليل سنتلصص على أهل الخوخ، وعندما ينامون جميعهم سوف نوسعهم ضرباً بأغصان الشجيرات. وبعد ذلك سنأخذ الكثير مما نستطيع حمله ونهرب. وأخيراً يمكننا من أكل صلصة الخوخ والفطائر والهلام والكعك الذي يصنع منه.
- ممتاز! سيكون ذلك ممتعاً!
وتسللوا إلى قرية أهل الخوخ، وعندما ناموا جميعهم انقضوا على القرية وسطوا على بيوتهم ودخلوها عنوة. وأخذوا من الخوخ الكثير الكثير مما استطاعوا حمله وهربوا. كان أهل الخوخ خائفين جداً إلى حد الموت ويسودهم الحزن وقالوا:
- ماذا كان ذلك؟ إن هذا لم يحصل من قبل! ربما أصبح أهل الكمثرى مجانين؟ لا بد من أن نرسل إليهم السيدة ساق الخوخ!
كانت السيدة ساق الخوخ قادرة على صنع مرهماً من نواة ثمرة الخوخ وأن تعالج كل الأمراض والعلل ماعدا السيقان المكسورة. ولذلك انطلقت السيدة إليهم حاملة معها إناءً مملوءً بالمرهم. ولكنها رجعت في المساء مرة أخرى وقالت: لا يريدون العلاج، وقد هددوني بأن يضربوني ويطردونني.
- إنه لشيء سيّء حقاً! ماذا سنفعل الآن؟
- إذا كانوا لا يريدون العلاج فذلك أنهم ليسوا بمرضى، إنهم سيئون ويجب علينا معاقبتهم!
- نعم.. ذلك ما سنفعله! سننقض عليهم ونأخذ الكمثرى الذي يمتلكونه. تلك هي العدالة!
جميعهم هللوا وفرحوا وصاحوا: طوعاً أو كرهاً إلى الحرب! وكانت السيدة ساق الخوخ الوحيدة التي بدت قلقة ولم تعمل شيئاً سوى أن هزت رأسها فقط غير راضية عما قيل. واتخذ أهل الخوخ سبيل الحرب وفي تلك الليلة شنوا هجوماً على أهل الكمثرى وهزموهم وأخذوا الكثير من الكمثرى وفرّوا.
وقال الناس: والآن ماذا ستفعلون لو أنهم هاجمونا مرة أخرى غداً؟
وكان القلق يبدو على الجميع، ولكن استدرك الشاب السيد نواة وقال: سنضع حراساً حول القرية ومعهم ساريات طويلة وإذا ما جاؤوا سوف نهزمهم. وهذا ما فعلوه بالفعل، وبعد ليالٍ قليلة جاء أهل الكمثرى مرة أخرى ليهاجموهم ولكن أهل الخوخ لقنوهم درساً لن ينسوه.
وقال السيد نواة: حسن. هذا ما قلته وعنيته! وأعطيناهم ما يستحقونه. سوف لن يجرؤوا على مهاجمتنا ثانية في القريب العاجل.
فقال الرجال: رائع جداً. ولكن أتعرف ماذا هنالك: نحن قد صمدنا نحرس كل ليلة لمدة أسبوعين وكنا ننام طول النهار. وفي نفس الوقت كنا قد أكلنا كل ما لدينا من كعك الخوخ وهلامه ولم يكن لدينا الوقت الكافي للطبخ أو خبز الكعك! ومن ثم يجب على الجميع أن يعطوكم شيئاً أيها الرجال والسيد نواة سيحصل على حصة الأسد لأنني كنت أهتم بكل شيء، وأنا تحملت المسؤولية كلها!
ولكن بعد فترة بدأ بعض من أهل الخوخ يتذمرون لأنه سابقاً كان هناك دائماً ما يكفي لكل شخص ولكن الآن كل الشباب من الرجال يذهبون للحراسة بدلاً من الاعتناء بأشجار الخوخ والطبخ وصنع الخبز. الآن لم يعد ما يكفي للجميع!
فقالت السيد نواة: صحيح هذا، غلطة مَنْ ذلك بأن لا يعمل الرجال من الشباب وكانوا مضطرين للوقوف حراساً بدلاً من ذلك؟ إنهم أهل الكمثرى! لذلك يجب على أهل الكمثرى أن يدفعوا من أجل ذلك!
ومع رجاله زحف السيد نواة إلى قرية أهل الكمثرى ليسطوا عليهم مرة ثانية. ولكن أهل الكمثرى وضعوا حراساً أيضاً وحصلت مواجهة مريعة في منتصف الطريق بين القريتين ولم يتمكن أهل الخوخ من التغلب على أهل الكمثرى.
فقال السيد نواة: يجب علينا أن نحيك شبكات لنجعلها شراكاً، وعندها نرميها فوق حراس أهل الكمثرى وبذلك يمكننا أن نهزمهم وننهب القرية!
فاضطر أهل الخوخ إلى حياكة الشبكات وهذه المرة نجحت الغارة. ورجعت حشودهم يقودها السيد نواة بفخر واعتداد بالنفس، وكان كل واحد من الرجال يحمل كيساً من ثمار الكمثرى على كتفه. وكان السيد نواة يحمل شيئاً أيضاً كبيراً، ألا وهو المسؤولية.
وفي وسط القرية، طلب السيد نواة من الجميع أن يضعوا كل الكمثرى في كومة كبيرة ومن ثم قسمت إلى ثلاث كومات أصغر، وقال: إذاً، واحدة منهن ستوزع على الناس بحيث يكون لكل واحد ما يكفيه. وأخرى سوف توزع بين جنودي لأنهم قاتلوا بشجاعة. والأخرى ستكون لي لأنني حملت المسؤولية كاملة.
وصاح الجميع صيحة فرح وابتهاج وهنأوا السيد نواة وربتوا على كتفه. وكانت الوحيدة من دونهم التي بدت قلقة هي السيدة ساق التاج وهزت رأسها غير راضية، وقالت: وماذا يحدث إذا قام أهل الكمثرى بحياكة شبكات أيضاً؟!
فقال السيد نواة: أعرف ذلك! سوف نبني جداراً حول القرية لكي لا يتمكن الأعداء من مهاجمتنا مرة أخرى.
وعليه اضطر أهل الخوخ لبناء جدار حول القرية كلها. ولكن أهل الكمثرى لم يكونوا يرغبون أن يوصموا بالعار على هزيمتهم. وعندما أبلغتهم فرق الاستطلاع والكشافة بان أهل الخوخ قد بنوا جداراً حول قريتهم، قاموا هم أيضاً ببناء جدار حول قريتهم. وقاموا بحياكة شبكات للإمساك بالحراس. وصنعوا أيضاً لأنفسهم سلالم لكي يتمكنوا من التسلق على جدار أهل الخوخ. وذات ليلة قاموا بغزو قرية أهل الخوخ وسرقوا كل شيء يملكونه.
وقال السيد نواة: هذا شيء لا يطاق! يجب علينا تلقين هؤلاء أهل الكمثرى الناعمين المخنثين درساً لن يستعيدوا عافيتهم منه. وأمر أهل الخوخ ببناء برج ضخم يسير بعجلات، ليندفع إلى الأمام باتجاه جدران قرية أهل الكمثرى، وبعد ذلك يرمون كرات نارية على بيوتهم.
ولكن في الوقت ذاته، كان أهل الكمثرى قد بنوا منجنيقاً ضخماً كانوا سيستخدمونه لهدم جدار قرية أهل الخوخ. وذات ليلة، زحف جيش أهل الخوخ إلى قرية أهل الكمثرى وبنفس الوقت كان قد زحف جيش أهل الكمثرى إلى قرية أهل الخوخ. ولما كان الليل حالكاً ويملأه الضباب مضى الجيشان زحفاً على مقربة من الآخر دون أن يلاحظوا ذلك. وعندما نصب أهل الخوخ برجهم أمام الجدار لأهل الكمثرى، تسلق السيد نواة إلى القمة وصاح قائلاً: افتحوا الأبواب واستسلموا أو سنحرق القرية كلها.
وبما أن جيش أهل الكمثرى كان خارج أسوار القرية، فتح القرويون الأبواب وتركوا جيش أهل الخوخ يدخلون قريتهم.
وبينما كان جيش أهل الكمثرى يدفعون المنجنيق باتجاه جدار قرية أهل الخوخ، فإن قائدهم كتب قصاصة من الورق يقول فيها"استسلموا أو سندكُّ قريتكم إلى الأرض"، ولف الورقة حول حجر وأطلقها مجتازة الجدار. ففتح أهل الخوخ أبواب القرية وتركوا جيش أهل الكمثرى يدخلون قريتهم.
وعندما أراد الجيشان أن يبدأوا بالنهب والسلب لم يكن هناك ما يكفي ويسد الحاجة. لم يكن هناك غير آنية قليلة من هلام الخوخ أو هلام الكمثرى وقليل من الكعكات اليابسة وبعض بقايا الفطائر التي كانت متعفنة! وقال أهل الكمثرى لجنود جيش أهل الخوخ: لم يتبق شيء! لم يكن لدينا وقتاً كافياً للطبخ أو للاعتناء بالأشجار. لقد أخذت الحرب منا كل الوقت.
وقال أهل الخوخ لجنود جيش أهل الكمثرى: لم يعد لنا شيء نملكه لأنه لم يكن لدينا وقت كافٍ لنعتني بالأشجار أو خبز الكعك. لقد أنهكتنا الحرب واستنفدت كل الوقت.
فقال قائد جنود الكمثرى: هذا هراء! وعاد أدراجه مع جنوده، وكذلك فعل السيد نواة بعد أن قال: اللعنة!
وعند انبلاج الفجر التقى كلا الجيشين في وسط الطريق بين القريتين وبما أن الغضب كان يتملكهما فقد بدءا كلاهما بالقتال ولكن قائديهما لم يشتركا بالقتال. وكان كلاهما يقف على تلة صغيرة ويتبادلان نظرات الحقد والدناءة. وعندما شعر الجيشان أنهما تعاركا لمدة طويلة دون أن يكون بينهما من رابح، أعطى كلا القائدين أوامرهما بالانسحاب والتراجع ليرجعوا إلى بيوتهم.
وفي اليوم التالي، طلب السيد نواة من الجميع أن يتجمعوا وقال لهم: حسن، يجب علينا الآن أن نعمل بشكل صحيح ونخبز بسرعة القليل من كعك الخوخ. لا بد من أن نخبز بشكل أسرع من العدو لكي نكون جاهزين قبلهم بأسرع ما يمكن للمعركة القادمة.
ولكن السيدة ساق الخوخ قالت: لا نستطيع أن نفعل ذلك لأنه لا يوجد هناك خوخ لعدم وجود من يعتني بالأشجار، وكل أشجار الخوخ قد تعفنت وفسدت وهوت إلى الأرض. ولا يوجد أيضاً دقيق للخبز. وعلى أية حال، لا يمكننا من عمل هذه الأشياء بهذه الطريقة. ماذا كان النفع من سرقة أحدنا الآخر؟ لو أننا أردنا أن يكون لدينا ما يكفي لنأكله، لكان كل شخص منا عليه أن يعمل طول النهار؛ كان علينا ذلك وأيضاً على أهل الكمثرى. السرقة والسلب لا تجعل من الخوخ أو الكمثرى ينمو. يجب علينا أن نتصالح مع أهل الكمثرى!
وأخيراً اتفق رأي أهل الخوخ مع رأيها، بعدما أرادوا أن يبدءوا من جديد بالاعتناء بأشجارهم وعمل الفطائر.
وكان الوحيد الذي لم يكن على رأيهم هو السيد نواة لأنه إذا لم تكن هناك حرب فانه لن يستطيع أن يأمر أو يتحمل المسؤولية وسوف لن يكون هناك من مكسب أو غنيمة يمكن أن يحصل على حصة الأسد منها.
لقد تجول في قرية أهل التوت البري ويقول لهم: استمعوا إليَّ.. لم يعد لأهل الكمثرى شيء يملكونه بعد الآن. لقد أنفقوا كل ما لديهم على الحرب، ولذلك هناك خطر كبير يحدق بكم وبأنه سوف يبدأ أهل الكمثرى بسرقتكم لاحقاً!
تحيّر أهل التوت البري من قوله وقالوا: نحن لم نفعل شيئاً سيئاً لهم أبداً.
فقال السيد نواة: هذا أمر لا يهمهم. إنهم لصوص وسيقومون بالسلب والنهب من أي مكان يستطيعون الحصول منه على غنيمة.
فردّ أهل التوت البري: ماذا علينا أن نفعل؟ نحن لا نفهم شيئاً بالحروب.
فقال السيد نواة: ولكننا نحن نفهم! عندي اقتراح: أعطونا كمية من التوت البري وسندافع عنكم ونحميكم من أهل الكمثرى.
تنهد أهل التوت البري وقالوا: حسن..وهل لدينا خيار آخر؟
وعندها رجع السيد نواة إلى قومه في قرية أهل الخوخ وأخبرهم: سننتظر تقريباً مدة عام حتى يكون هنالك حصاداً! وماذا تتوقعون أن تكون معيشتنا في الفترة ذاتها؟ لو عقدنا معاهدة سلام واتفقنا سنكون من الجياع السنة كلها! ولكننا لو تعاونا مع أهل التوت البري للقتال ضد أهل الكمثرى، فإننا سنحصل على بعض من محصول التوت البري منهم حالاً.
وصاح الشباب منهم ممن تعودوا القتال وقالوا: نعم..ذلك أفضل. إننا أفضل في القتال عما نحن عليه في زراعة أشجار الخوخ.
أما الآخرون فتحيروا في الأمر وقالوا: أن نبقى جائعين لسنة كاملة! من يتحمل ذلك؟
ومرة أخرى سايروه فيما قال لهم السيد نواة ماعدا السيدة ساق الخوخ بدت قلقة وهزت رأسها مستاءة مما يحدث. ولكن في نفس الوقت، قام قائد جيش أهل الكمثرى بإقامة تحالف مع أهل التفاح. ومثلما بدأ كل شيء انتهى أيضاً كذلك: قام أهل التوت البري والتفاح ببناء جدران حول قراهم أيضاً وقاموا بحياكة شبكات وبناء أبراج معدة للحصار وسلاح المنجنيق لدك معاقل العدو وإلى جانب ذلك كانوا يعطون المدافعين عنهم نصف ما يملكون من ثمار. وعندما انتهت السنة لم يتبقى شيء في الكوكب كله ليأكلوه أو ليسرقوه.
ودعت السيدة ساق الخوخ جميع النساء في الكوكب ليتجمعوا، وكان ذلك ممكناً لأنه لم يكن هناك إلا أربع قرى، وقالت لهم: لا يمكننا أن نعيش في هذه الحال. السرقة والحروب المدمرة لا تجعل من الخوخ والكمثرى والتوت البري والتفاح تنمو وتزهر. لابد من أن يعمل كل شخص ولن يكون هناك غنائم ومكاسب كل على حساب الآخر. وسيكون لدينا ما يكفينا لو أن الجميع أنجزوا ما عليهم. لا يمكن أن نتحمل كل هذه السرقات! لا يمكن أن تأكلوا ما نسجتموه من شباك أو سلالم أبراج أو ما صنعتم من أسلحة المنجنيق أو جدراناً بنيتموها أو أبراجاً لحصار قراكم!
وقالت النساء: صحيح!
- إذن أخبروا أزواجكم ليتصالحوا ويصافحوا الآخرين ويرجعوا إلى بساتينهم في الحال، أو أننا جميعاً سنلقى حتفنا من الجوع!
وقالت النساء: حسناً!
وقد أنجز الاتفاق وتصافح الرجال وعقدوا الصلح وقالوا: أعذرونا.. لن يحدث ذلك ثانية.
وهكذا عاد السلام إلى الكوكب هورتس مرة أخرى. وبعد سنتين أو ثلاث سنين كان لكل واحد منهم طعاماً يسد حاجته. وقامت السيدة ساق الخوخ بعمل آنية من هلام الخوخ كهدايا وتعطيها إلى القرى الأخرى، وكانت النساء من القرى الأخرى بدورهن يرسلن كعك التفاح وصلصة الكمثرى وفطائر التوت البري.
وبما أن السلام ساد لفترة طويلة جداً، فقد كان للناس أيضا وقتاً كافياً ليفكروا ملياً ويخترعوا الأشياء. أحدهم اخترع ملاقط خاصة لالتقاط التفاح من دون الحاجة إلى تسلق الأشجار، وآخر طور مجموعة شجيرات التوت البري التي لا يكون فيها أي أشواك، وآخر اخترع أداة تجعل من السهل انتزاع النواة من ثمرة الخوخ، وآخر اخترع سكيناً خاصة لتقشير الكمثرى. وقالت النساء: ممتاز، الآن يحتاج كل منا أن يعمل نصف نهار ويكون لديه نصف آخر ليرتاح فيه.
ولكن ذات يوم وقف السيد نواة وقال لأهل الخوخ: هذا ليس بشيء جيد. يستلقي الناس هنا وهناك دون أن يعملوا شيئا لنصف نهار لأن عملنا أصبح أكثر يسراً مع آلات انتزاع النواة الجديدة! ولكن ماذا لو أن أهل الكمثرى قرروا أن يهاجمونا ويجبروننا على العمل عندهم في النصف الآخر من النهار؟!
اخترع أهل الكمثرى ماكينة جديدة لتقشير الكمثرى، وهذا يعني أن هناك خطورة كبيرة لأنه إذا لم يضطروا للعمل طول النهار لكي يؤمنوا طعاماً كافياً فإنه عندئذ سيكون لديهم الوقت الكافي لبناء أبراج حصار جديدة أو أسلحة المنجنيق! لذلك لا يمكننا أن نضيع نصف النهار في اللعب أو سرد القصص. وبوجود آلات انتزاع نواة الخوخ الجديدة فانه سيكون لدينا الآن الوقت الكافي للتفكير بدفاعاتنا. وبدلا من العمل فقط لنصف نهار ، فانه سيكون من الأفضل لو أن نصفنا عمل النهار كله والنصف الآخر يبني ويصنع أسلحة المنجنيق وقضاء الوقت في إجراء التدريبات. والآن يمكننا أن نقدم المساعدة في بناء جيش ذو شأن. وهذه هي الطريقة الوحيدة لنحمي أنفسنا من أي هجوم آخر من قبل أهل الكمثرى الذين في يوم ما سيستعبدوننا!
كان يعيش فوق سطح كوكب هورتوس أربع جماعات فى أربع قرى صغيرة وهى:
قرية التفاح وقرية البرقوق وقرية الكمثرى وقرية التوت.
وكان أهل قرية التفاح يعيشون على شراب التفاح ومربى التفاح وفطائر التفاح والتفاح المطبوخ بالسكر.
وكان أهل قرية البرقوق يعيشون على عصير البرقوق ومربى البرقوق وفطائر البرقوق والبرقوق المطبوخ بالسكر.
وبالمثل عاش أهل قرية الكمثرى وأهل قرية التوت.
واستمر الحال هكذا فترة طويلة دون مشاكل حتى جاء يوم سئم فيه أهل قرية الكمثرى من أكل الكمثرى فقط وقال واحد منهم: "ما رأيكم لو فعلنا مثل العصابات؟"
فسأله أحدهم: "عصابات..؟ كيف؟"
قال: "إنه أمر بسيط للغاية. سوف نتسلل فى الليل ونزحف على قرية البرقوق حين ينام أهلها وننقض عليهم ونوسعهم ضربا ونأخذ ما نقدر على حمله من البرقوق ونفر هاربين. وحينئذ نستطيع تذوق شراب البرقوق ومربى البرقوق وفطائر البرقوق والبرقوق المطبوخ بالسكر."
ردوا عليه قائلين: "أحسنت . إنها لعبة مسلية حقا".
وعندما جاء الليل تسللت جماعة الكمثرى حتى وصلت إلى قرية البرقوق وبينما الكل نيام دخلوا البيوت وانقضوا علي أهلها وأخذوا ما يستطيعون حمله من برقوق وعادوا به إلى بيوتهم.
فزع سكان قرية البرقوق وانزعجوا وتساءلوا فيما بينهم: "ما هذا الذى حدث؟ لم نر شيئا مثل هذا من قبل. ربما أصاب أهل قرية الكمثرى لوثة عقلية فأصبحوا مجانين. يجب أن نرسل لهم السيدة خوخة الطبيبة."
وكانت خوخة طبيبةً عجوزاً تعرف كيف تصنع الزيوت الشافية من نوايا البرقوق فتعالج جميع الأمراض.
أخذت السيدة خوخة طريقها الى أهل قرية الكمثرى حاملة قدرا مملوءا بزيوت البرقوق الشافية. وعندما عادت فى المساء قالت لجماعتها: "إنهم لا يريدون العلاج وهددونى وأمرونى بالعودة."
قال أحدهم: "هذا شىء خطير. ماذا نحن فاعلون الآن؟"
رد عليه آخر قائلا: " إذا كانوا يرفضون العلاج ، فمعنى هذا أنهم ليسوا مرضى بل إن طباعهم خبيثة ولابد من معاقبتهم على ما فعلوه."
وصاح البعض: "نعم .. هيا بنا ننقض عليهم ونسطو على ما لديهم من كمثرى وهكذا يكون العدل."
وهنا صاحوا كلهم مهللين لهذا القرار ماعدا السيدة خوخة التى هزت رأسها فى اعتراض صامت.
وبالفعل اتجهت جماعة من أهل قرية البرقوق عازمين الحرب على أهل قرية الكمثرى وأغاروا عليهم ليلا واعتدوا عليهم بالضرب ثم أخذوا الكثير مما يمكن حمله من كمثرى وعادوا إلى بيوتهم منتصرين.
بعد عودتهم سألتهم السيدة خوخة: "وماذا أنتم فاعلون إذا بادروا هم فى الغد وهجموا عليكم مرة أخرى؟"
نظر أهل قرية البرقوق إلى بعضهم البعض فى قلق وانبرى الشاب (نوى) من بينهم قائلا: "سنقوم بوضع حراسة ليلية حول القرية ونزوّد الحراس بعصي طويلة قوية حتى إذا قدموا عليهم مهاجمين تصدوا لهم وأوسعوهم ضربا."
وكان هذا بالفعل ما حدث. فعندما عادت جماعة الكمثرى للهجوم مرة أخرى على جماعة البرقوق انهال عليهم الحراس بالضرب وأجبروهم على العودة.
وهنا قال السيد (نوى) فخورا بنفسه: " ألم أقل لكم؟ لقد استطعنا أن ننال منهم بطريقة منظمة ومدبرة. لن يجرءوا بعد الآن على الاعتداء علينا مرة أخرى."
لكن الرجال من أهل قرية البرقوق الذين قاموا بالحراسة كان لديهم ما يقلقهم وقالوا: "هذا كله كلام مفهوم. ولكننا من أجل قيامنا بالحراسة لم ننم ليلة واحدة منذ أسبوعين وكنا ننام بالنهار. وبالطبع لم نعمل واستهلكنا كل ما لدينا من كعك البرقوق ومربى البرقوق ولم يكن لدينا وقت لصنع طعام جديد."
وردَّ عليهم السيد (نوى) قائلا: "لقد قمتم بالحراسة من أجلنا جميعا ولابد أن يعطيكم الجميع شيئا مما لديهم."
وأعطى المواطنون من أهل البرقوق بعضا مما لديهم للحراس. أما السيد (نوى) فقد أخذ النصيب الأعظم حيث قال لهم: " أنا الذى فكرت .. وأنا الذى أتحمل المسئولية وأهتم بالأمور ومجرياتها .. لهذا من حقى أن آخذ النصيب الأكبر."
وبعد وقت قليل تذمر أهل البرقوق من أن كميات البرقوق تتناقص. فقد كان البرقوق يكفيهم كلهم قبل أن تتبدل الأمور هكذا. أما الآن فقد نقصت اليد العاملة وأصبح البرقوق لايكفى الجميع، إذ كان على الرجال الشباب أن يهتموا بأمور الحراسة بدلا من اهتمامهم بزراعة أشجار البرقوق وإنتاج طعام مما تطرحه ثماره.
وقال السيد (نوى) ردا على هذا: "ومن يكون السبب فى قيام شبابنا بأعمال الحراسة بدلا من العمل والإنتاج؟ إنهم أهل قرية الكمثرى الذين بدأوا بالعدوان. ولهذا فهم الذين يجب أن يدفعوا الثمن." ثم قام بتعبئة رجاله وتقدم بهم نحو قرية الكمثرى ليسطو عليها مرة أخرى. وفوجىء بأن أهل قرية الكمثرى قد وضعوا أيضا حراسة حول القرية. ونشأت معركة حامية فى منتصف الطريق بين القريتين ولم تستطع جماعة البرقوق الثأر من جماعة الكمثرى.
فكر السيد (نوى) وقال: "لابد أن نصنع شباكا نلقيها على الحراس فى قرية الكمثرى فنشل حركتهم، وبذلك ننتصر عليهم ونتمكن من السطو علي ثمارهم."
وبالفعل قام أهل قرية البرقوق بصناعة شباك وألقوها على الحراس ونجحت تلك الحيلة.
عاد السيد (نوى) برجاله سعيدا بالنصر. وكان كل واحد من رجاله يحمل جوالا مملوءا بثمار الكمثرى. أما السيد (نوى) فكان هو الآخر يحمل شيئا ثقيلا.. إنها المسئولية .. فقد نصب نفسه القائد المسئول عن أمور القتال والحرب.
وقام السيد (نوى) بإلقاء جميع ثمار الكمثرى التى استولوا عليها فى حقل كبير يقع فى منتصف القرية، ثم أخذ يقسمها إلى ثلاثة أكوام وقال: "هذا الكوم من نصيب سكان القرية ليأكل منه الجميع، والكوم الثانى من نصيب رجالى من الجنود لأنهم قاتلوا بشجاعة والكوم الثالث من نصيبى أنا بما أننى أحمل مسئولية الجميع".
وقبل الجميع هذه القسمة وصاحوا مبتهجين وربتوا على كتف السيد (نوى) ماعدا السيدة (خوخة) التى هزت رأسها فى قلق وقالت: "لو أن سكان قرية الكمثرى صنعوا هم أيضا شباكا يلقونها على جنودكم ليسطوا عليكم .. ماذا أنتم فاعلون؟"
أجاب السيد (نوى) قائلا: "لقد فكرت بالفعل فى ذلك. سنقوم ببناء جدار سميك حول القرية وبذلك لا يستطيع أحد من سكان قرية الكمثرى الهجوم علينا."
وعلى الفور قام أهل قرية البرقوق ببناء سور ضخم حول القرية.
وأراد أهل قرية الكمثرى أن يتخلصوا من الهزيمة التى أُلحقت بهم. وقاموا هم أيضا ببناء أسوار ضخمة حول قريتهم بعدما بلغهم أن أهل قرية البرقوق قد فعلوا ذلك. كذلك نسجوا شباكا لاصطياد الحراس وقاموا بصنع سلالم تساعدهم على تسلق الجدار المبنى حول قرية البرقوق.
وفى ليلة من الليالى هاجموا قرية البرقوق بواسطة السلالم التى صنعوها وسطوا على ديارهم.
وعندما أفاق أهل قرية البرقوق على ما فعله أهل قرية الكمثرى قال السيد (نوى): "كفى إلى هذا الحد. يجب أن نلقن أهل الكمثرى الجبناء درسا لا يفيقون منه أبدا.
وأمر السيد (نوى) جنوده ببناء برج عال يتحرك على عجل لتحريكه حتى سور قرية الكمثرى ثم إطلاق قذائف نارية من فوقه على البيوت فى القرية.
وفى أثناء عمل ذلك كان أهل قرية الكمثرى بدورهم يبنون مدفعية ضخمة تقذف حجارة ليهدموا بها سور قرية البرقوق.
وفى ليلة مظلمة خرج كل من جنود قرية البرقوق وجنود قرية الكمثرى وكل منهما يريد قتال الآخر. وكانت ليلة ذات ظلام دامس وضباب كثيف، فزحف الجيشان ومرا كل منهما بجوار الآخر دون أن يشعر به.
وعندما شيَد جنود قرية البرقوق البرج العالى أمام سور قرية الكمثرى ، صعد السيد (نوى) فوقه وصاح بأعلى صوته: "افتحوا جميع البوابات وقوموا بتسليم أنفسكم وإلا سوف نحرق قريتكم." وفتح سكان القرية الأبواب. ولم يكن الجند بداخلها ليدافعوا عنها.
ونفس الشىء قام به جنود قرية الكمثرى إذ وضعوا المدفعية الضخمة أمام سور قرية البرقوق .. ثم أحضر قائد الجند ورقة ودَوَن فيها هذا التهديد:
"من الأفضل لكم أن تستسلموا وإلا سنمطر قريتكم بوابل من الحجارة."
وقام القائد بطى الورقة وربطها بشريط حول حجر وقذف بها من على السور.
واستجاب سكان قرية البرقوق وفتحوا الأبواب ولم يكن الجند بداخلها ليدافعوا عنها.
وعندما بادر كل فريق بالسطو على ثمار القرية التى دخلها وجد أن القريتين خاليتان من الثمار والطعام إلا من بعض قطرات المربى وبعض الكعك المجفف وقليل من الفطائر التى تعفنت.
قال أهل قرية الكمثرى لجنود قرية البرقوق: "كما ترون .. لم يتبق لدينا شئ. لم يكن لدينا الوقت لنعتنى بالشجر والزرع وصنع الطعام ، فقد ذهب كل مجهودنا للإعداد للحرب."
وقال أهل قرية البرقوق لجنود قرية الكمثرى: "كما ترون .. لم يعد لدينا شئ. لم نجد الوقت لنعتنى بالشجر والزرع وصنع الطعام، فقد ذهب كل مجهودنا للإعداد للحرب".
قال قائد الجند من قرية الكمثرى: "هذا هراء." وعاد أدراجه مع جنوده مرة أخرى.
وقال السيد (نوى) قائد جند قرية البرقوق: "اللعنة عليكم." ومضى برجاله من حيث أتى.
ومع شروق الشمس تقابل الجيشان فى منتصف الطريق بين القريتين. كانا يستشيطان غضبا وأخذا يكيلان لبعضهما اللكمات. ووقف القائدان فوق تل صغير ينظر كل منهما إلى الآخر والشرر يتطاير من أعينهما فى غيظ.
وبعد أن تعب كل فريق من كثرة الشجار، أمر القائدان جنودهما بالرحيل والعودة إلى الديار.
فى اليوم التالى نادى السيد (نوى) على أهل قريته وقال لهم: "الآن يجب أن نسرع الى العمل ونخبز فى الحال كمية من كعك البرقوق لنؤمن طعامنا، وعلينا أن نكون أسرع من الآخرين حتى نستعد قبلهم للمعركة القادمة."
لكن السيدة (خوخة) قالت لهم: "لا فائدة من هذا. لم يبق هناك برقوق لنصنع منه طعامنا لأن أحداً لم يعتن بالأشجار، وقد ذبلت ثمار البرقوق على الأرض. ولم يتبق هناك دقيق نصنع منه الكعك. ثم ماذا يعود علينا من السطو على بعضنا البعض؟ إذا كنا نريد أن يكون لكل واحد منا نصيب عادل من الطعام، فعلينا أن نعمل ولا نلتفت إلى الأمور الأخرى وإلى العدوان على الآخرين. ونفس الشىء لابد أن يحدث مع أهل قرية الكمثرى. يجب أن نعقد صلحا معهم.
واستراح السامعون لكلام السيدة (خوخة) واتفقوا معها فيما قالته فهم يريدون العيش فى سلام والعودة إلى الاهتمام بالأشجار وصنع الكعك والشراب من ثمار البرقوق كما كانوا يفعلون من قبل.
أما السيد (نوى)، فلم يعجبه هذا الكلام، فهو يرى أنه إذا خلت الدنيا من الحروب فلن يستطيع أن يأمر ويسيطر، ولن تكون هناك غنائم يستقطع منها النصيب الأكبر له.
ولمعت فكرة خبيثة فى عقل السيد (نوى) ، فذهب سرا إلى أهل قرية التوت وقال لهم:
" استمعوا لى. إن أهل قرية الكمثرى لم يعد لديهم طعام يكفيهم لأنهم استنفدوا كل مخزونهم فى الحرب. وهناك احتمال كبير فى أن يقوم أهل قرية الكمثرى فى المرة التالية بالسطو عليكم وسلب خيراتكم .. فقد جاء دوركم."
هز أهل قرية التوت رؤوسهم متعجبين وقالوا: "لكنا لم نفعل لهم شيئا حتى يهاجمونا".
قال لهم السيد (نوى): "هذا لا يهم. إنكم لا تعرفونهم مثلى. إنهم لصوص ينهبون الغير ويستولون على الغنائم بأية وسيلة."
قال أهل قرية التوت: "إن هذا لشىء مفزع. ماذا نفعل الآن ونحن لا نفهم فى أمور الحرب."
أسرع السيد (نوى) قائلا: "لا داعى للقلق. نحن لدينا دراية بأمور الحرب. ما رأيكم لو نقوم نحن بحمايتكم من أهل قرية الكمثرى فى مقابل أن تعطونا نصيبا من ثمار التوت.
تنفس أهل قرية التوت بارتياح وأجابوا: "حسن .. ليس أمامنا خيار آخر."
وذهب السيد (نوى) بهذا الاقتراح الى أهله فى قرية البرقوق وقال لهم:
"إن أمامنا عاما طويلا حتى موسم الحصاد القادم. من أين ستحصلون على طعامكم فى أثناء انتظاركم للحصاد؟ إذا عقدنا الصلح مع أهل قرية الكمثرى فمعنى هذا أننا سنجوع عاما كاملا. ولكن إذا تحالفنا مع أهل قرية التوت لحمايتهم من أهل قرية الكمثرى، فسنحصل فى المقابل على ثمار التوت فورا وهذا سيعيننا على العيش."
قال الشباب من أهل القرية الذين اعتادوا على أمور القتال: "نعم .. هذا أفضل ، على أية حال فقد أصبح القتال بالنسبة إلينا أمرا سهلا."
ووافق أيضا باقى أهل القرية على الفكرة وقالوا: "من منا يتحمل مجاعة سنة كاملة؟"
لكن السيدة (خوخة) لم تكن مقتنعة وهزت رأسها فى قلق.
وفى أثناء ذلك فعل أهل قرية الكمثرى نفس الشىء. فقد تحالفوا مع أهل قرية التفاح لحمايتهم وصد أى عدوان عليهم، وفى المقابل يأخذون نصيبهم من التفاح.
وبدأت الأمور تدور دورتها من جديد. يبنى كل من أهل قرية التوت وأهل قرية التفاح الأسوار حول قريتهما .. ينسجون الشباك .. يبنون السلالم والأبراج .. يصنعون القذائف .. ويعطون نصف ثمارهم إلى من يحمونهم ويدافعون عنهم.
وعندما مر العام لم يبق على الكوكب طعام ولم يبق هناك شيء يستحق السلب.
وهنا اجتمعت السيدة (خوخة) بجميع السيدات اللاتى يعشن فوق الكوكب من سكان القرى الأربع وقالت لهن:
"إن الأمور لا يجب أن تستمر طويلا هكذا. القتال والسلب والنهب لا يجعل ثمار البرقوق والتوت والتفاح والكمثرى تنمو. إن الطعام يكاد يكفينا إذا قام كل واحد بعمله فحسب، فما بالكم إذا أصبح هناك سلب ونهب تتعرض له القرى الأربع؟ إن الشباك والأبراج والأسوار والقذائف والمدافع ليست أشياء تؤكل."
قالت السيدات جميعهن: "هذا صحيح."
واصلت السيدة (خوخة) حديثها قائلة:
"إذن .. اطلبن من رجالكن أن يتحدوا جميعا ويعودوا إلى زراعة وفلاحة البساتين من جديد، وإلا سوف نهلك جميعا من الجوع."
قالت السيدات: "حسنا .. سنفعل".
ونجحت النساء فى إقناع رجالهن.
وهكذا تم عقد اتفاقية سلام وصلح بين القرى الأربع على كوكب هورتوس ومد الرجال أيديهم لبعضهم البعض وقالوا: "إن أمور الحرب لن تعود مرة أخرى". وعم السلام على الكوكب.
وبعد ثلاثة أعوام أصبح هناك طعام يكفى الجميع. وكانت السيدة (خوخة) تتبادل أصناف الطعام مع سكان القرى الأخرى فترسل لهم قدورا مملوءة بمربى البرقوق. وكانت السيدات فى القرى الأخرى يرسلن أيضا كعك التفاح وفطائر الكمثرى والتوت.
وساد السلام فترة طويلة بينهم حتى وجد الناس متسعا من الوقت للتفكير واختراع أشياء مفيدة. فاخترع واحد آلة لقطف ثمار التفاح دون الحاجة إلى تسلق الشجر، وطوَّر واحد آخر زراعة ثمار التوت دون أشواك ، وثالث قام باختراع جهاز يفصل نوى البرقوق عن الثمرة بطريقة سهلة، وقام رابع باختراع سكين لتقشير الكمثرى.
قالت السيدات: "شئ رائع. الآن يستطيع كل واحد أن يعمل نصف اليوم فقط ولن يتأثر الانتاج".
وفى يوم من الأيام وقف السيد (نوى) وخطب فى أهل قرية البرقوق وقال لهم:
"لا يصح أن نعمل نصف اليوم فقط ونستلقى فى استرخاء فى النصف الآخر لمجرد أن العمل الآن من خلال جهاز فصل النوى قد سهل الأمور كثيرا. ماذا نحن فاعلون إذا نصب أهل قرية الكمثرى لنا فخا جديداً؟ لقد اخترع أهل قرية الكمثرى سكينا خاصا لتقشير الكمثرى وهذا يشكل خطرا علينا، لأنهم لن يضطروا أن يعملوا طوال الوقت حتى ينشغلوا بتأمين طعام كاف لهم، بل سيجدون الوقت الكافى لبناء أبراج وصناعة قذائف. ولهذا لا يجب علينا أن نضيع النصف الآخر من الوقت فى سرد الحكايات واللعب. فباختراعنا آلة فصل النوى أصبح لدينا وقت للتفكير فى الإجراءات التى يجب أن نتخذها للدفاع عن أنفسنا ضد أي مخاطر. وبدلا من أن نعمل كلنا نصف اليوم، أقترح أن يعمل نصفنا فقط كل اليوم والنصف الآخر يتفرغ لصنع القذائف والتدرب عليها. وعندئذ نستطيع أن نمتلك أدوات دفاع كاملة ويكون لدينا جيش جاهز فى أى وقت. وهذا ما سوف يحمينا من هجوم أهل قرية الكمثرى علينا مرة أخرى."
وهنا كان يبدو أن كل شىء سيبدأ من جديد وسوف تنتهى مرحلة السلام بين القرى ... لولا أن وقفت السيدة (خوخة) بشجاعة ولكمت السيد (نوى) لكمة قوية فى عينيه فهوى على الأرض ولم يتفوه بكلمة بعدها.
عندما كان يأتي الجنود، كنا نختبئ في مغارة بعيدة في مكان مهجور، ونأخذ معنا قربة الماء المصنوعة من جلد الماعز والمملوءة بالماء، وبعض من أرغفة الخبز والتين، وهذا كل شيء.
إن المعزتين اللتان تركناهما وراءنا، وكنت حزينا لأجلهما لأن جدّي قال سوف لن نراهما ثانية، كانتا ستنحران ويأكلهما الجنود. كانت أمي تنتحب بصمت، ولكنها تركت الطفل يرضع من صدرها الوقت كله ولذلك لم يبدأ بالبكاء وربما لأجله مُنحنا مكان اختباءنا. كنت أعرف أنه يجب عليّ أن لا أبكي لأنني كنت بنتاً يافعة وأن جدّي قال لي بأنك تفهمين كل شيء كأي شخص ناضج. ولكني أستطيع أن أتكلم مع جدّي بصوت منخفض جداً، فقط من حين لآخر حين كان يعتقد أنه يسمع ضجة خارج الدار وكنت حينها أضطر إلى أن أصمت حتى يتمكن من الاستماع بشكل أفضل!
وقلت لجدّي: لماذا سيقتل الجنود المعزتين؟! ألا يحبون أن يشربوا الحليب؟
- حسناً، إنهم يحبّون أن يشربوا الحليب، ولكنهم يحبون أكل اللحم أكثر. ولكن معظمهم لا يريدون أن يأكل جنود الملك باباك المعزتين.
- أليس الملك باباك ملكنا؟
- هذا ما يقولونه.
- ألم يكن الأجدر بنا أن نأخذ معنا المعزتين لإنقاذهما من جنود الملك باباك؟
- في النهاية سوف تذهب المعزتين منا، ولا يهم فيما إذا أكلهما جنود الملك باباك أو جنود الملك أوبوك.
- ولكن إذا ربح الملك أوبوك الحرب، هل سيعمل جنوده على عدم قتلنا جميعا؟
- كلا، عندما تنتهي الحرب سوف تفرض علينا الإتاوة لندفعها إلى الملك أوبوك بدلاً من الملك باباك. هذا هو كل الاختلاف.
- ولكن أليس الملك باباك هو ملكنا الشرعي وهو الأب لهذا البلد؟ أليس هو الأب لنا جميعنا؟
- نعم، هذا ما يقوله لنا رجال الدين. ولكن قبله كان أريك ملكنا وهو الأب لهذه البلاد وكنا نصلي وندعو لسلامته من كل سوء في المعبد. كان الملك باباك حينها على الجهة المقابلة من النهر. كانت بين الاثنين معركة لأن الملك أريك قد دنّس شرف الملك باباك وكرامته، وهزم جيش الملك باباك جيش الملك أريك الذي قتل على إثرها وتمت السيطرة على البلاد.
- ألم يدنس الملك أوبوك شرف الملك باباك أيضاً؟!
- نعم هذا ما يقولونه.
- إذن ألم يكن للملك باباك الحق في أن يقاتل من أجل شرفه؟!
- وهذا ما سيعمل عليه ملوكنا!
- ألا تقاتل يا جدّي عن شرفك وكرامتك؟
- نحن المزارعون لا نقاتل من أجل شرفنا وكرامتنا. عندما ينعتني رجال الدين بالخنزير الكسول لأنني لم أجلب الكمية الكافية من الذرة إلى المخزن، فإنه لا يمكنني من الدفاع عن شرفي. وكانوا سيجلدونني حتى الموت، ولكن مع الملوك فإن الأمر يختلف. يجب عليهم أن يتعلموا الدفاع عن شرفهم وكرامتهم.
- لماذا الملوك وليس المزارعين؟!
- عندما يدنّس شرف ملك من قبل ملك آخر، فإنه سيجمع جيشه ويقاتلون الملك الآخر. أحياناً يفقد الملك حياته في المعركة، وفي أحيان أخرى فإن الملك الآخر هو الذي يُقتل، وأن الملك الناجي سيضمّ إليه مملكة الملك الآخر إلى مملكته. إن الملك الخاسر لا يعرف بأن دفاعك عن شرفك وكرامتك، يمكن أن يودي بحياتك لأنه قد توفى. عندما كان جدّي شاباً، كانت هناك ثلاثين مملكة صغيرة في هذا الوادي. والآن لا يوجد سوى خمسة أكبر من تلك التي كانت.
- وذلك لأن الملوك كانت لهم جولات من الحروب بينهم؟ ولأن شرفهم وكرامتهم قد دُنِّسا؟
فقال الجد: إنه كان دائماً شيئاً من هذا القبيل.
- وهل كان مثل هذا يحدث على الدوام؟ وهل كانت تحدث حروب دائماً من أجل تأسيس مملكات أكبر وأكبر؟
فقال الجد: لا أعرف! قال جدّي بأنه ذات مرة لم يكن هناك ملوكاً ولا يوجد إلا مزارعين. وقال ((كانوا يعيشون مع بعضهم في القرى))، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عن الحروب. يمكنني أن أتخيل بأنه حقيقياً ما كان يقوله جدّي. لماذا كانوا سيتقاتلون مع القرية المجاورة؟ لماذا كانوا يريدون أن يستولوا على أرضهم ويسلبونها منهم؟ كان همّ المزارع الوحيد أن يزرع الأرض بقدر ما يستطيع. لم يكن هناك من استغلال أكثر لأرض أكثر من الأرض التي يمكن أن يزرعها هو وعائلته.
آه.. حسناً، من الممكن أن يكون للمزارع أولاد كثيرون، وبعد فترة ستكون هناك عائلات أكثر وتحتاج إلى أراض لزراعتها. هل سيبدأون بقتال ليستلبوا وينتزعوا أراضي الآخرين؟ أنا أشك في ذلك. أعتقد أنه حري بهم أن يقسّموا الأرض التي بحوزتهم من أن يخاطروا بالبدء بقتال يؤدي إلى أن يُقتلوا. وحتى إذا ما بدأوا بقتال فإنهم سوف يتوقفون بعد أن يحصلوا على ما يكفي من أراض تسد حاجاتهم. وبأنه سوف تكون هناك حدوداً لجشعهم، ولكن لا حدود لجشع الملوك!
فقلت لجدّي: هل أن الملك إنسان خلاف ما هو عليه المزارع؟ أمن الممكن أنه نوع مختلف من الحيوانات، مثلما أن المعزة ليس لها شبه مع الخروف؟
فقال الجد: لا أظن ذلك. أعتقد إذا ما أخذنا ولداً لمزارع وتربّى تربية ملك، فإنه سوف يفعل كل الأشياء التي يفعلها الملوك!
- إذن لماذا يكون الملوك مميزون؟!
- لأن طريقة حياتهم ومعيشتهم مختلفة، وهي بعيدة عن حياة المزارعين. كما قال جدّي((كان هناك صيادون في العهود الغابرة من الذين كانوا يعيشون في الغابات ويصيدون الحيوانات)). كذلك هؤلاء لم يتقاتلوا فيما بينهم من أجل الأرض. كان لكل مجموعة مناطق صيد خاصة بها، ولا يمكن أن يستغلوا مناطق صيد أكبر مما عندهم. ولكن في يوم من الأيام، أصبح الجو جافاً أكثر، والغابات أصبحت أصغر مما كانت عليه والحيوانات التي في الغابة تناقصت كثيراً عما كانت عليه. واكتشف الصيادون نوعاً جديداً من الفرائس، إنهم المزارعون ومخازنهم المملوءة بالبذور التي تم تحضيرها للسنة القادمة والأغنام والخنازير. سوف يسرقون من المزارعين ما يملكونه وعندما يحاول المزارعون الدفاع عن أنفسهم فإنهم سوف يقتلونهم! وكما قال جدي((كان الصيادون أفضل في استخدام الأسلحة بسبب استخدامهم له كل يوم)). وبسرعة اكتشفوا انه من الأفضل لهم أن لا يقتلوا جميع المزارعين وأن لا يسلبوا كل شيء منهم. لأن بقاء المزارعين على قيد الحياة سوف يتمكنون من زراعة الذرة ثانية ويربّوا حيواناتهم مما لديهم من بعض البذور والعلف. وفي السنة التالية يمكن أن تتم سرقتهم مرة أخرى.
وكان هناك أحد رؤساء القبائل الأذكياء قد عقد معاهدة مع المزارعين وأخبروهم : لو أنكم تدفعون لي الإتاوة كل سنة، فإني سوف أقوم بالدفاع عنكم ضد السرّاق الآخرين. ولذلك أصبح الصيادون محاربين وقياداتهم ملوكاً.
والآن بالنسبة لملك يملك أرضاً فإنه شيء مختلف لأنه سوف لن يعمل على زراعة الأرض بنفسه وسيكون لديه مزارعون من الذين يعملون عنده، ويعطونه محصول الذرة وزبداً ولحماً وصوفاً وأشياء أخرى. إن الملك لا يستغل كل هذا لنفسه بل أنه يستخدمه لإطعام جنوده وتجهيزهم بالملابس وكذلك الحال يسري على رجال الدين التابعين له، والحدّادين الذين يصنعون السيوف، وصانعي الأقواس الذين يصنعون الأقواس والسهام للجنود، والبنّائين الذين يعملون على بناء القصور والمعابد. وكل هذا يستغله من أجل الاستيلاء على أراضٍ أكثر ليأخذ المزيد من الإتاوات ليطعم مزيداً من الجنود ليستولي على أراض غيرها وهكذا الأمر.
- وعليه إذا لم يكن هناك من ملوك فإنه سوف لن تكون هناك حروب؟
- لو لم يكن هناك أناس من الذين يعيشون على عمل الآخرين، فإنه على الأقل سوف لن تكون هنالك حروب وقتال إلى ما لا نهاية كما هي عليه الآن. ربما لا يكون هنالك من قصور أو معابد والتي ستكون حتماً أصغر، ولا يوجد الكثير من الفنانين من الذين يصنعون الحلي الرائعة والتماثيل الفخمة الرائعة لأنه لا يوجد من يستطيع أن يعطي ذلك النوع من الأشياء. وسوف لن يكون هنالك سجّاد ذوات ألوان رائعة جداً، ولكن من الممكن أن الجميع سيكون لديه سجّاد بسيط ولا ينام على أرض مجردة. وربما ستكون هناك معارك أحياناً هنا وهناك ولكنها لن تدوم.
فسألت جدّي: إذن القتال سوف لن ينتهي بعد ذلك؟
- محتمل بعد آلاف كثيرة من السنين عندما يصبح العالم كله مملكة واحدة.
- ولكن لا يمكننا أن نرجع إلى طريقة العيش والزمن الذي كان قبل أن يكون هناك ملوكاً؟
فقال جدّي: لا أظن ذلك! كيف يمكن أن يكون ذلك؟ إن لدى الجنود سيوفاً وأقواساً وسهام، ونحن ماذا لدينا؟
- ولكن ماذا لو أن المزارعين في العالم جميعهم اتفقوا على أن لا يطعموا الملوك وجنودهم بعد الآن؟
فقال جدّي: إنه من غير الممكن. هناك من سيرسل إليهم الرسل ليبلغهم بذلك؟!
عندما رحل الجنود، كانت القرية فارغة. جميع الحيوانات قد قُتلت أو تم الاستيلاء عليها، وأن جميع الحبوب قد أُخذت من المخازن التي أحرقت. وحتى المجارف والمناجل قد اختفت.
شرحَ لنا الجد كيف نصطاد السمك من النهر، وكيف نطبخ بعض النباتات البرية، وأحياناً يصيبنا القحط عندما يمر علينا موسماً جافاً خالٍ من الأمطار. ومن ثم سوف تنمو بعض الذرة في الحقول من بعض البذور التي قد سقطت على الأرض أثناء موسم الحصاد، وسوف لن نخبز ولا حتى رغيف واحد بل نحتفظ بها كلها لنزرعها مرة أخرى. شيئاً فشيئاً استعادت الحقول عافيتها ثانية. أمي رحلت عن هذه الدنيا، والجد رحل أيضاً، وتزوج أخي الصغير فتاة من القرية المجاورة ورزقوا بطفل.
كان قد تعارك اثنان بشكل موجع. وكان أحدهما ضخماً وثقيلاً وقوياً، والآخر كان سميناً وفظاً وشريراً!
قام الرجل القوي بكسر أنف الرجل الفظ، وقال: إن لديه أنفاً يشبه أنفي تماماً!
فقام الرجل الفظ بكسر أضلاع الرجل القوي، وقال: إن أضلاعه تشبه بالضبط ما لدي من أضلاع!
وقام الرجل القوي باقتلاع عينيّ الرجل الفظ، وقال: هذه العيون هشة وحساسة تماماً كالتي عندي!
فقام الرجل الفظ برفس الرجل القوي في معدته، وقال: إن معدته بالضبط تشبه معدتي!
وقام الرجل القوي بخنق الرجل الفظ من حنجرته، وقال: إنه يحتاج إلى الهواء ليتنفس كما أحتاجه تماماً!
فقام الرجل الفظ بضرب الرجل القوي بشدة على قلبه، وقال: إن قلبه يدق كما يدق قلبي بالضبط!
وعندما سقط كلاهما إلى الأرض ولم يستطيعا النهوض مرة أخرى، راجع الاثنان نفسيهما قائلين: إن هذا الرجل يشبهني تماماً!
تعارك اثنان بعنف.
واحد منهما طويل والآخر بدين.
واحد منهما ضخم والآخر صلب.
واحد منهما عنيف والآخر شرس.
حطم العنيف أنف الشرس فقال فى نفسه:
إن لديه أنفاً مثل أنفى.
كسر الشرس ضلوع العنيف فقال فى نفسه:
إن هذه الضلوع تطرقع مثل ضلوعى.
ضرب العنيف عين الشرس فقال فى نفسه:
إن هذه العين رخوة ورقيقة مثل عينى.
ركل الشرس بطن العنيف فقال فى نفسه:
إن هذه البطن لينة مثل بطنى.
أطبق العنيف على عنق الشرس فقال فى نفسه:
إنه يحتاج إلى الهواء ليتنفس مثلى.
ضغط الشرس على قلب العنيف فقال فى نفسه:
إن قلبه يدق مثل قلبى.
سقط الاثنان على الأرض وعجزا عن النهوض
وأدرك كل منهما أنهما متشابهان.
قال كل واحد فى نفسه:
أنا مثل الآخر ، والآخر مثلى أنا.
ولكن لم تنقذهما هذه الحقيقة ..
فقد عرفاها بعد فوات الأوان ..!في يوم من الأيام عندما أصبح السيد بالابان مجنداً جديداً، قال الرقيب المسؤول عن التدريب: حسن.. اليوم سنتدرب على قتال رجل لرجل، سيكون هذا مهماً جداً لكم عندما ينفجر المنطاد!
قامت حرب كبيرة فوق كوكب المريخ ثم توقفت.
كانت الحرب بين بلد القرنفل وبلد البنفسج
فى حزن وإرهاق شديد عاد القرنفليون إلى موطنهم فوق الكوكب وقالوا فى نبرة أليمة بعدما خسروا الحرب: "لن تكون هناك حرب مرة أخرى".
فى حزن وإرهاق شديد أيضا عاد البنفسجيون إلى موطنهم فوق الكوكب بعدما كسبوا الحرب وقالوا فى نبرة أليمة: "لن تكون هناك حرب مرة أخرى."
امتلأت أرض المعركة بموتى كثيرين من البنفسجيين والقرنفليين ، وكان عدد الموتى فى الفريقين متساويا وغطت الأرض الدماء الخضراء السائلة بطريقة مرعبة.
وعلى ضفة نهر يقع على الحدود تقابل رئيس جمهورية القرنفل مع ملك مملكة البنفسج وعقدا اتفاقا ينص على ألا تنشب حرب بينهما مرة أخرى وتعاهدا على ذلك.
واحتفل البلدان احتفالات كبرى بمناسبة الصلح والسلام.
طالب القرنفليون بينما هم يحتفلون بهذه المناسبة أن يحيلوا الجنرال قائد جيشهم إلى المعاش.
وطالب البنفسجيون أيضا فى أثناء احتفالهم بهذه المناسبة بتسريح المارشال قائد جيشهم.
واتفق القرنفليون على أن يعمل جنودهم فى زراعة الفراوله.
واتفق البنفسجيون على أن يعمل جنودهم بحياكة الملابس.
لكن الجنرال قائد جيش القرنفل احتج قائلا: "إن هذا قرار خاطئ. فإذا لم يكن لدينا قائد جيش وجنود، سيهجم علينا البنفسجيون مرة أخرى. لابد أن نمتلك جيشا قويا متيقظا لصد أى هجوم محتمل علينا".
فكر القرنفليون وقالوا: "نعم ، نعم ، إنك على حق".
أما المارشال قائد جيش البنفسج فقد قال هو الآخر: "إن هذا قرار خاطئ. فإذا علم القرنفليون أننا بلا جيش فسوف يثأرون منا على الفور ردا على الهزيمة التى ألحقت بهم. وهذا يعنى أننا فى حاجة إلى جنود وقائد لنحمى أنفسنا."
فكر البنفسجيون وقالوا: "هذا صحيح. هذا حق".
بعد انتهاء الحفل عاد رجال كل فريق إلى بيوتهم حائرين.
جلس الجنرال قائد جيش القرنفل محدثا نفسه قائلا: "لقد عانيت الكثير وصحيح أنا لا أتحمل حربا مرة أخرى، لكنى إذا لم أظهر لهم أننى جنرال كفء وشجاع فسيحيلونني إلى التقاعد، وهذا ما لا أرضاه."
ثم توجه إلى رئيس جمهورية القرنفل وقال له: " إن جيشنا فى حاجة إلى المزيد من السيوف حتى يدافع عن نفسه بكفاءة ويصد أى هجوم علينا مرة أخرى. أرجو من سيادتكم إصدار أوامركم بفرض المزيد من الضرائب حتى نستطيع أن نشترى سيوفا من عند الحدادين".
استجاب الرئيس لكلام الجنرال وفرض المزيد من الضرائب على القرنفليين.
اجتمع أصحاب ورش الحدادة وأعلنوا: "نحن لا نريد حربا مرة أخرى ، ولكن إذا بعنا الكثير من السيوف نستطيع عندئذ أن نلحق أبناءنا بأحسن المدارس."
وقال العمال الذين يعملون فى ورش الحدادة: "نحن لا نريد حربا مرة أخرى، ولكن إن امتنعنا عن صنع السيوف، سيقوم أصحاب العمل بطردنا ولن نستطيع توفير الطعام لأبنائنا."
هذا ما حدث فى بلد القرنفـل.
أما ما حدث فى بلد البنفسج فقد قال المارشال قائد الجيش محدثا نفسه: " لقد عانيت الكثير وأريد السلام، لكن إذا لم أظهر لهم أننى مارشال كفء وشجاع، فسيستغنون عنى فى الحال، وهذا ما لا أرضاه. ثم توجه إلى ملك البنفسج ومال عليه قائلا: "لقد سمعت أن القرنفليين يشترون السيوف لجيشهم ، وعلينا أن نفعل شيئا. إننا فى حاجة إلى أفراد ينضمون إلى الجيش ليزداد عدد الجنود ونستطيع صد أى هجوم علينا. أرجو من فخامتكم إصدار أوامركم لرفع قيمة الضرائب حتى نستطيع الإنفاق على الجنود."
وافق الملك على كلام المارشال وارتفعت الضرائب على شعب البنفسج وانضم مزيد من الأفراد إلى الجيش.
أجمع المزارعون من بلد البنفسج على أنهم يريدون السلام ولكن إذا امتنعوا عن بيع ما يزرعون من ثمار وخضراوات للجيش، لن يستطيعوا أن يدفعوا الضرائب الباهظة التى فرضت عليهم.
وقال الخياطون: "نحن نريد السلام، ولكن كلما ازداد عدد الجنود فى الجيش زادت الطلبات على الملابس العسكرية وكثرت مبيعاتنا."
وقال صانعو الحراب: "نحن نريد السلام ولكن كلما كثر عدد الجنود زاد الطلب على الحراب وكثرت مبيعاتنا منها."
ومرت الأيام وكل فريق يحاول أن يحصن نفسه ضد الآخر.
وفى يوم من الأيام اكتشف مخترع من بلد القرنفل سما ضارا شديد الفتك ذا تأثير قاتل. قال المخترع لنفسه: "أنا لا أريد إيذاء أحد، ولكنى إذا احتفظت لنفسى بسر هذا الاكتشاف فلن أستطيع توفير ثمن ما أشتريه من خبز ولبن." وهكذا قام فدّون فى كتاب كيفية تركيب هذا السم.
أما فى بلد البنفسج فقد تمكن باحث علمى من اكتشاف طريقة لصنع قنبلة تفنى كل شىء على ظهر الكوكب. وقال الباحث لنفسه: "أنا لا أريد أن أضر أحدا، ولكنى يجب أن أعلن هذا الاكتشاف على الملأ حتى لا يظن الناس أننى لا أنتفع بعلمى." وقام فدّون فى كتاب كيفية صنع القنبلة.
وتوجه مارشال بلد البنفسج إلى الملك وقال له: "لابد لنا أن نسرع بصنع هذه القنبلة لأننى سمعت أن بلد القرنفل يعد سما فتاكا يستطيع أن يبيدنا به."
وتوجه جنرال بلد القرنفل إلى رئيس الجمهورية وقال له: "لابد لنا أن نسرع بتركيب هذا السم القاتل لأننى سمعت أن بلد البنفسج يصنع قنبلة مدمرة تستطيع أن تهلكنا."
وهكذا صدرت الأوامر بتركيب السم الفتاك فى بلد القرنفل.
وصدرت الأوامر بصنع القنبلة المدمرة فى بلد البنفسج.
وقام القرنفليون بتصنيع حقنة ضخمة عملاقة لإطلاق المادة السامة على البنفسجيين.
وقام البنفسجيون ببناء منطاد ضخم عملاق لحمل وإلقاء القنبلة المدمرة على القرنفليين.
وفى إحدى المناسبات الوطنية قال رئيس القرنفل فى أثناء إلقاء كلمته: "الآن .. لن يكون هناك حرب على الإطلاق. إننا ننشد السلام ولن يجرؤ البنفسجيون أبدا على مهاجمتنا لأننا نملك هذا السم الفتاك."
وفى إحدى المناسبات العسكرية قال ملك البنفسج فى أثناء إلقاء كلمته: " الآن .. يجب أن يعم السلام. إننا لا نريد الحرب ولن يجرؤ القرنفليون على الاعتداء علينا لأننا نملك تلك القنبلة المدمرة."
وفى يوم اكتشف الحدادون فى بلد القرنفل أن الحديد لديهم لا يكفى لصنع السيوف والعربات والمحاريث وآلة قص الحشيش. وقرروا أن يبحروا إلى جزيرة الحديد القريبة ليحصلوا على الحديد الذى يكفيهم.
وكذلك اكتشف الحدادون فى بلد البنفسج أن الحديد لديهم لا يكفى لصنع المزيد من الحراب والعربات والمحاريث وآلة قص الحشيش ، وقرروا أن يبحروا إلى جزيرة الحديد ليحصلوا على الحديد الذى يحتاجونه.
وأرسل القرنفليون سفينة إلى جزيرة الحديد.
وكذلك أرسل البنفسجيون سفينة إلى جزيرة الحديد.
وعندما عادت السفن حكى البحارة كيف شاهدوا بعضهم بعضا وكل منهم يأخذ ما يحتاجه من حديد فوق الجزيرة.
ونشرت جريدة من بلد القرنفل خبرا يقول: "أهل البنفسج يستولون على الحديد من جزيرة الحديد ويستأثرون به لأنفسهم".
ونشرت جريدة تصدر فى بلد البنفسج خبرا يقول: "أهل القرنفل يستحوذون على كل الحديد ويضعون أيديهم عليه".
وللأسف فإن الجرائد الأخرى التى نشرت الخبر بطريقة غير مبالغ فيها لم تجد من يقرأها سوى نفر قليل من الناس ، لأن الناس بطبعهم يميلون دائما للأخبار المثيرة.
ومرة أخرى تملك القرنفليين الخوف من البنفسجيين وتوجس البنفسجيون شرا من القرنفليين.
وهنا قال القرنفليون: "يجب أن تكون جزيرة الحديد ملكا لنا حتى نضمن السلامة والسلام."
وقال البنفسجيون: "لابد أن نمتلك جزيرة الحديد حتى نؤمن أنفسنا من ويلات الحرب مرة أخرى."
وأضاف القرنفليون قائلين: "إذا لم يكن لدينا ما يكفى من حديد لصناعة المحاريث، فلن يكون لدينا طعام ، ولن ينفعنا السم الفتاك الذى نمتلكه. "
وبرر البنفسجيون دوافعهم قائلين: "إذا لم يكن الحديد فى حوزتنا، لن نستطيع صناعة آلات الزراعة وسنموت جوعا ولن تنفعنا تلك القنبلة المدمرة التى نمتلكها."
ووضحت نوايا الاستيلاء على ثروة الحديد لدى الطرفين.
فأرسل القرنفليون سفينة حربية لغزو جزيرة الحديد.
وأرسل البنفسجيون سفينة حربية لغزو جزيرة الحديد.
ودارت المعركة هناك ولم تحسم لصالح أى منهما ..
وأرسل القرنفليون سفينة أخرى.
وأرسل البنفسجيون أيضا سفينة أخرى.
خطب الجنرال قائد جيش القرنفل فى حماس قائلا: "لن نسمح للبنفسجيين بالاستيلاء على جزيرة الحديد وبناء السفن الحربية." وقام هو وجنوده بمهاجمة الترسانة البحرية للبنفسجيين.
وقال المارشال قائد جيش البنفسج فى حماس: "يجب أن نمنع القرنفليين من الاستيلاء على جزيرة الحديد وبناء السفن الحربية." وقام هو وجنوده بمهاجمة الترسانة البحرية للقرنفليين.
وصاح القرنفليون: "لقد بدأونا بالعدوان."
وصاح البنفسجيون: "لقد بدأونا بالعدوان."
وانبرى الجنرال قائد جيش القرنفل قائلا: "لقد أردنا السلام من البداية لكن فات الأوان وعلينا الآن أن نطلق عليهم السم الفتاك قبل أن يلقوا علينا القنبلة المدمرة."
وقال المارشال قائد جيش البنفسج: "نحن ضد الحرب من البداية ولكن فات الأوان. يجب أن نلقى عليهم القنبلة قبل أن يطلقوا علينا السم الفتاك."
أحضر جيش القرنفل الحقنة الضخمة وتم ملؤها بالسم.
وأحضر جيش البنفسج المنطاد الضخم واستعد للانطلاق بالقنبلة.
وتوعد القرنفليون: "إنها نهايتهم .. الآن سوف نقضى على البنفسجيين."
وتوعد البنفسجيون: "إنها نهايتهم .. الآن سوف نقضى علي القرنفليين.""
رأى القرنفليون المنطاد وهو يصعد ببطء فى اتجاههم فقالوا: "إنها نهايتنا".
ورأى البنفسجيون الحقنة الضخمة وقد صوبت ناحيتهم فقالوا: "إنها نهايتنا".
ظهر المخترع الذى اكتشف السم وقد بدا على وجهه الفزع وقال لأهله من القرنفليين: "ربما كان لا يجب أن أكتشف هذا السم."
وظهر الباحث العلمى الذى اخترع القنبلة وقد بدا على وجهه الفزع وقال لأهله البنفسجيين: "ربما كان لا يجب أن أخترع هذه القنبلة."
وقال الحدادون: "ربما كان علينا ألا نصنع السيوف."
وقال صانعو الرماح: "ربما كان علينا ألا نصنع الرماح."
وقال الخياطون: "ربما كان علينا ألا نخيط الملابس العسكرية."
وقال المزارعون: "ربما كان علينا أن نمنع الطعام عن الجنود."
وقال الصحفيون: "ربما كان علينا ألا نبالغ فى كتابة الأخبار."
وقال الجنود: "ربما كان علينا ألا نكون جنودا."
وقال القرنفليون: "ربما كان يجب أن نحيل الجنرال قائد جيشنا إلى التقاعد."
وقال البنفسجيون: "ربما كان يجب أن نقوم بإنهاء خدمة المارشال قائد جيشنا."
وربما كان يجب أن تنتهى القصة هنا.
لولا أن اندفع شخص عاقل من أهل القرنفل وجمع أصدقاءه وقال لهم: "إن الخطر قادم نحونا ومن الصعب أن ننقذ أنفسنا الآن، ولكن ما ذنب البنفسجيين ، فنحن لا نستطيع أن نلومهم على خبثهم ومكرهم لأننا سلكنا نفس سلوكهم."
وتسلق هو وأصدقاؤه الحقنة العملاقة وأحاطوا بها وقلبوها فى اللحظة الحاسمة قبل أن يندفع السم من فتحتها ليقتل البنفسجيين.
فى نفس الوقت تجمع بعض البنفسجيين العقلاء وقالوا: "إن الموت يقترب منا وهذا كله بسبب غبائنا. ولكن ألا يمكن أن نبرهن للقرنفليين أن هناك على الأقل بعض البنفسجيين الذين يتحلون بالشهامة والكرم؟"
وقاموا فتسلقوا الحبال حول المنطاد وأبطلوا مفعول القنبلة قبل أن تنفجر فى القرنفليين.
وعندما لاحظ القرنفليون أن القنبلة لم تنفجر فيهم، غمغموا فيما بينهم فى دهشة:
"إن البنفسجيين لم يفجروا القنبلة فينا."
وعندما لاحظ البنفسجيون أن السم لم يصبهم همسوا لبعضهم فى دهشة:
"إن القرنفليين لم يطلقوا السم علينا."
وكان المشهد مدهشا حقا ، فقد ألقى الجميع السيوف والحراب من أيديهم وجلسوا على الأرض وتنهدوا من الأعماق وقالوا:
"لقد سكتت الحرب مرة أخرى وسلمنا منها."
وأجهش الكثير منهم بالبكاء حين شعروا أن حملا ثقيلا قد انزاح.
وأحال القرنفليون والبنفسجيون كلا من الجنرال والمارشال إلى التقاعد وجردوا الرئيس والملك من منصبيهما ثم رفعوا أيديهم بتحية السلام وقالوا لبعضهم البعض: "هذه المرة .. يجب أن نتعلم الدرس."
كان هناك رجل يمتلك عبدا.
وكان العبد يقوم بجميع شئون سيده .. ويفعل له كل شىء.
كان يغسل له جسده .. ويمشط شعره .. ويقطع الطعام قطعا صغيرة ويضعها فى فمه.
وكان يكتب له خطاباته ويمسح أحذيته ويرتق جواربه.
وكان يقطع الحطب ويشعل له المدفأة.
وحينما كان الرجل يخرج إلى النزهة بالقرب من ثمار التوت .. كان على العبد أن يقطفها له ويدسها فى فمه.
وحتى لا يهرب العبد .. أوثقه الرجل فى سلسلة يقوده بها دائما.
وهكذا كان الرجل والعبد متلازمين .. لا يفترقان .. كان الرجل يقتاد عبده ليل نهار ويجرجره معه أينما ذهب حتى لا يترك له فرصة للهرب.
وكان الرجل يحمل دائما سوطا فى اليد الأخرى. فإذا تمرد العبد وجذب السلسلة انهال الرجل عليه بالسوط.
وكثيرا ما كان الرجل يشعر بألم فى يده وينهكه التعب من جلد العبد بالسوط .. فيسب ويلعن العبد والسوط وكل شىء حوله.
وأحيانا كان الرجل يختلس وقتا قصيرا يتذكر فيه طفولته .. حينما كان صغيرا لا يمتلك عبداً .. كان حينئذ يجوب الغابة حرا .. يقطف ثمار التوت دون قيود .. أما اليوم .. فإنه لا يستطيع حتى أن يقضى حاجته وحده .. أولاً لأن العبد يمكنه أن يهرب فى أثناء ذلك .. وثانياً .. لأنه لن يجد من يسكب عليه الماء لينظف نفسه .. هو نفسه لا يستطيع أن يفعل شيئا لأن يديه لا تتمتعان بالحرية.
وفى يوم .. أدرك أحد أصدقائه كم هو مهموم فقال له: "يا صديقى .. إذا كانت الأمور قد بلغت هذا الحد من السوء فلماذا لا تطلق سراح هذا العبد؟"
أجاب الرجل: "لقد فكرت فى ذلك فعلا .. ولكنى أخشى لو أننى أطلقته أن يقتلنى."
وظل الرجل يحلم بينه وبين نفسه بيوم يسترد فيه حريته وأمنه.
ولكن .. هل يحلم العبد أيضا بالحرية ؟
إنه لا يحلم بالحرية منذ أمد طويل .. بل كل حلمه أن يصير سيداً ويقيد هذا الرجل فى سلسلة ويسوقه ويجلده بالسياط ويدعه يسكب عليه الماء لينظف نفسه ..
فى زمن من الأزمان فوق أحد الكواكب العجيبة كان يوجد بَلَدان تربطهما حدود مشتركة. بلد منهما اسمه "صاد" والآخر اسمه "سين". وكانت هناك بلدان أخرى قريبة وبعيدة وبأسماء عجيبة . لكن ما يعنينا هنا هو ما حدث لصاد وسين .. فلنحكى حكايتهما.
ذات يوم خرج القائد الأعلى فى صاد وجمع أهل البلد وخطب فيهم خطبة طويلة. قال لهم: "إننا ضقنا بقربنا من سين ، فالحدود بيننا أصبحت متشابكة ، ونشعر أن سين تحاصرنا وتلتصق بنا بشدة ونخشى أن تستولى على جزء من أرضنا ولن نصبر على هذا."
ثم أكمل كلامه وقال: "إن السكان فى سين قد اقتربوا كثيرا من حدودنا وهذا يجعل المكان يضيق بنا ونصبح غير قادرين على الحركة والتنفس."
استرسل القائد الأعلى فى التفكير ثم قال: "يجب على سين أن تبتعد عن حدودنا ويجب على السكان فى سين أن يتزحزحوا قليلا إلى الوراء ، وإن لم يبتعدوا عن حدودنا، فسوف تكون مهمتنا أن نجبرهم على الابتعاد."
ثم ارتفع صوت القائد الأعلى قائلا: "نحن لا نريد أية مشاكل. إننا شعب مسالم ولكن الويل لمن يقترب من حدودنا. إن الحرب شىء بغيض ولن نسمح للحرب بأن تقوم. لن نسمح بالتضحية بأفضل أبنائنا فتصبح نساؤنا أرامل وأطفالنا أيتاما. ولكنى فكرت بأن نفعل شيئا. فكرت بأن نضعف قوة البلد سين ونبادر بالهجوم عليها قبل أن يدفعونا هم إلي الحرب. ومن أجل هذا أيها المواطنون .. فإننى أعلن أمامكم رسميا الحرب على سين من أجل الدفاع عن أنفسنا وإنقاذ أطفالنا وإرساء السلام."
نظر شعب صاد لبعضه البعض فى حيرة، ثم اتجه المواطنون ببصرهم إلى القائد الأعلى الذى كان فى قمة حماسه. وسرعان ما رأوا قوات الحرس الخاص ينتشرون فى الميدان مرتدين الدروع الواقية ومتسلحين بالأسلحة المشعة والمدمرة.
أصابهم هذا المشهد بالحماس فقاموا مهللين وصفقوا بإعجاب وصاحوا: "يعيش القائد الأعلى للبلاد ، ويسقط شعب سين!"
و.. بدأت الحرب.. !
فى نفس اليوم عبرت قوات صاد الحدود الفاصلة بينها وبين سين. كان المشهد مخيفاً. عربات مصفحة تبدو مثل تنانين حديدية ضخمة تدك كل شىء يعترض طريقها. ومن فوق العربات تنطلق قنابل من فوهات مدافع وغازات سامة تنبعث لتقتل وتفنى كل شىء. تندفع العربات فتخلف الموت وراءها وتنشر الخراب فى الغابات التى كانت مزدهرة.
طائرات بالآلاف تملأ السماء فتحجب ضوء النهار ويرتعد خوفا كل من يمشى أو يقف وينكب واقعا على وجهه من تأثير الضجيج المفزع. يفترش ظلال الطائرات العملاقة الأرض وتسقط القنابل. وما بين الطائرات العملاقة فى السماء والعربات المصفحة فوق الأرض كانت هناك أسراب من الطائرات الهليوكوبتر تطن وتزن مثل الناموس الغاضب.
أما الجنود فكانوا مثل الريبوتات (الإنسان الآلى) فى زيهم الفولاذى الذى يقيهم من القنابل والطلقات والغازات السامة والجراثيم. يحمل الجنود فى أيديهم أدوات قتال ثقيلة الحجم لإطلاق القذائف وأشعة الليزر لصهر أى شىء.
وهكذا تقدمت القوات التى لا تُقهر .. قوات بلد صاد ، البلد المحارب لقتال بلد سين .. بلد العدو ، وإبادة شعبها دون رحمة.
ولكن .. من العجيب أنهم لم يجدوا أية مقاومة أمامهم .. لم يجدوا هذا العدو.
ففى اليوم الأول دخلت القوات مسافة عشرة كيلومترات فى أرض الأعداء. وفى اليوم الثانى
عشرين كيلو مترا. فى اليوم الثالث عبرت القوات النهر الكبير. وكلما تقدمت القوات وتوغلت فى البلد لا تجد حولها سوى قرى مهجورة وحقول جرداء ومصانع خالية. زمجر القائد الأعلى فى غيظ وقال لجنوده:
"أين جنود هذا البلد .. لعلهم يختبئون.. حتى إذا مررنا من أمامهم يهجمون علينا من الخلف. ابحثوا عنهم فى كل ركن وجحر حتى فى أكوام القمامة وكونوا على حذر."
فتش الجنود فى كل مكان وقلبوا أكوام القمامة، ولكنهم لم يجدوا أثرا لجندى واحد .. وكل ما عثروا عليه كان تلالا من الأوراق الشخصية: بطاقات شخصية، شهادات ميلاد، جوازات سفر، شهادات تطعيم، بطاقات صحية ، بطاقات تأمين، شهادات دراسية، إيصالات، وغيرها من الأوراق. وكانت الصور الشخصية للأفراد منزوعة من جميع البطاقات والشهادات.
أصابت الجنود حيرة شديدة ولم يستطع أحد منهم تفسير ما يراه.
ثم ظهرت مشكلة أخرى كبيرة واجهت قوات وجنود صاد وهى علامات الطرق ، إذ كان الكثير منها إما منزوعا من أماكنه أو مقلوبا مشيرا إلى الاتجاه المعاكس أو مدهونا بطلاء سميك غطى على الأحرف والإشارات. والغريب أن بعض العلامات كانت صحيحة ، فلم يستطع جنود صاد التمييز بين العلامات الصحيحة والعلامات غير الصحيحة مما أدى إلى تضليلهم.. فكانت فِرق بأكملها تتوه .. ودوريات من الجند تتخبط فى جميع الاتجاهات .. وكتائب تهيم فى الطرقات لا تدرى من أين انطلقت وإلى أين تذهب. وقد يحدث كثيرا أن يفقد قائد فرقة أو دورية جنوده ، فيلعن حظه ويرسل جنودا أخرى فوق دراجات بخارية للبحث عن جنوده المفقودين فى كل مكان.
وأمام هذا كله اضطر القائد الأعلى أن يرسل لاستدعاء جميع مهندسى المساحة وعلماء الجغرافيا من صاد ليحضروا إلى سين ويحددوا معالم الطرق فيها ويضعوا اللافتات على الشوارع من جديد.
فى اليوم الرابع من الغزو أمسكت قوات الجيش المحتل بأول أسير من سين. لم يكن هذا الأسير جنديا، كان شخصا مدنيا وجده الجنود فى الغابة يحمل على ذراعه سلة بها عيش الغراب. أمر القائد الأعلى باستدعائه لكى يستجوبه بنفسه. قال الأسير أن اسمه (هانس مولر) وأنه يعمل فى جمع عيش الغراب من الغابة.
سأله القائد عن بطاقته الشخصية. أجاب الأسير بأنها فقدت منه.
ثم سأله القائد عن جنود وقوات سين ولماذا لا يرى أثرا لهم.
أجاب الأسير بأنه لا علم لديه بأى شىء.
فى الأيام التالية قبض جيش صاد على عدد كبير من المدنيين رجالاً ونساءً. وعندما سألوهم عن أسمائهم أجابوا بأنهم جميعا يسمون (هانس مولر) أو (ليزا مولر) ، ولا أحد منهم يحمل بطاقة شخصية. وجن جنون القائد الأعلى.
بعد فترة استولت قوات صاد على أول مدينة كبيرة فى سين. وسرعان ماقام الجنود بكتابة أسماء الشوارع بالفرشاة على حوائط المدينة بعد أن استطاعوا الاستيلاء على خرائط الطرق من مبنى المخابرات العامة. ولكن السرعة التى أنجزوا بها العمل تسببت فى أخطاء كثيرة ، فاسم الشارع فى أوله ليس هو نفس اسمه فى آخره. والاسم المكتوب على يافطة فى الجانب الأيمن من الشارع غير مطابق للاسم على اليافطة فى الجانب الأيسر منه. وعمت الفوضى وساد الارتباك صفوف الجنود وضلت خطواتهم فى طرقات المدينة وعلى رأسهم قائدهم الذى أخذ يسب ويلعن وهو يقبض على خريطة فى يده.
واكتشف الجيش المحتل أن لا شىء يعمل فى هذه المدينة.
كل شىء معطل.
محطة توليد الكهرباء لا تعمل.
ومحطة الغاز لاتعمل.
وجميع خطوط التليفون معطلة لأن هيئة الاتصالات لا تعمل.
كل المصالح والهيئات توقفت عن العمل.
أمر القائد الأعلى فى نبرة صارمة جميع المواطنين فى سين بالتوجه فورا إلى أعمالهم وحظًر عليهم الإضراب عن العمل.
امتثل المواطنون وذهبوا إلى أعمالهم فى المصانع والشركات ، ومع ذلك بقى الحال كما هو عليه. لا شىء يدور ولا شىء يعمل. وعندما تأتى القوات لاستطلاع الأمر وتسأل المواطنين عن السبب ، يكون ردهم: إن رئيس الشركة غير موجود ولم يصدر توجيهاته ،
أو يقولون: إن رئيس العمال غير موجود ولم يوضح ما نفعل ، أو أن السيدة المديرة غير موجودة ولم تكلفنا بشىء.
وأرادت القوات المحتلة البحث عن رئيس الشركة ورئيس العمال والسيدة المديرة ، ولكن كيف لهم أن يجدوهم والمواطنون فى البلدة أسماؤهم واحدة ، الذكور يسمون هانس والإناث يسمون ليزا ولا يوجد لدى أحد منهم بطاقة شخصية.
وهنا أصدر القائد الأعلى تهديده بإطلاق النار على كل مواطن لا يدلى باسمه ولقبه الحقيقى. فأطلق المواطنون على أنفسهم اسما آخر غير (مولر) ولكن ماذا يجدى .. والكل كان يحمل أيضا نفس الاسم. ولم يفلح التهديد فى معرفة الحقيقة.
وكلما تقدمت القوات المحتلة داخل البلد أطبقت عليها المصاعب. فلقد شح الطعام فى سين وكان لابد من إرسال مواد غذائية من صاد.
توقفت مظاهر الحياة فى سين .. حتى القطارات امتنعت عن السير. وكان العاملون فى السكة الحديد يحركون القاطرات هنا وهناك دون هدف والسائقون فى شجار دائم يتنازعون اقتسام العربات فيما بينهم. وبالطبع اختفى جميع الرؤساء والإداريين الذين يملكون زمام الأمور ويصدرون التوجيهات ، ولا أحد قادر على العثور عليهم.
على الجانب الآخر لم يتعرض أحد من المدينة للجنود. فصار الجنود يتجولون داخل البلد دون خوف، فلا أحد يفعل لهم شيئا أو يمسهم بسوء. وبسرعة تخلى الجنود عن قواعد الحيطة والحذر وأصبحوا يمشون بين أهالى المدينة وخوذاتهم المصفحة فوق رؤسهم مفتوحة لأعلى، كاشفين عن وجوههم ، يتبادلون الحديث مع الأهالى فى ود واطمئنان.
وصار الأهالى فى سين يقتسمون طعامهم الطازج مع الجنود وأحيانا يستبدلونه بأطعمة الجنود المعلبة. واستطاعوا إخفاء كل ما لديهم من أطعمة قبل مصادرتها من القائد الأعلى. فكان الجنود يحصلون على السَلَطات الطازجة أو الكعك المخبوز فى البيت مقابل المعلبات المحفوظة التى كانوا يعطونها للأهالى وكانت متوفرة لديهم بكثرة لأنهم سئموا مذاقها.
وعندما علم القائد الأعلى بما يحدث بين الأهالى والجنود ثار ثورة عارمة وصار يصرخ صادرا ألفاظا غير مفهومة وأمر بمنع أى جندى من ترك وحدته إلا فى حالة تكليفه فى دورية. ولم ترحب الجنود بهذا القرار.
فى النهاية استولت قوات صاد على عاصمة سين. وكانت العاصمة مثلها مثل المدن الأخرى. فالشوارع ليس بها لافتات أو علامات، والبيوت بدون أرقام ولا يوجد ما يدل على أسماء أصحابها والمصالح والمكاتب خاوية ، لا يوجد مهندسون ولا مديرون ولا موظفون ولا أسطوات ولا رجال شرطة. الوزارات خالية وقد اختفت جميع الأوراق والمستندات. المصانع والشركات لا تعمل وحكومة المدينة نفسها ليس لها أثر.
استشاط القائد الأعلى غضبا وقرر أخيرا ألا يرحم أحدا وأمر كل الموظفين والعمال فى المدينة فى بلاغ رسمى التوجه الى مقار عملهم فى الشركات والمصانع ، وهدد بإطلاق النار على من لا يستجيب للأمر ويقبع بالمنزل.
وذهب القائد الأعلى بنفسه إلى محطة توليد الكهرباء مصطحبا معه جنودا وضباطا من أفراد جيشه ممن لديهم خبرة بأعمال الكهرباء لمراقبة سير العمل. ووقف القائد الأعلى أمام العاملين فى المحطة وقال لهم فى توعد: "سأمهلكم ساعتين لتعملوا حتى يعود التيار الكهربائى إلى المدينة."
وقف الضباط يأمرون والجنود يراقبون. واندفع العاملون يهرولون هنا وهناك ينفذون الأوامر بالحرف. أما النتيجة فكانت ارتباكاً شديداً وفوضى هائلة مع استمرار تعطل التيار.
استدعى القائد الأعلى ضباطه وجنوده مرة أخرى وصرخ فى العاملين قائلا: "إن لم يعد التيار الكهربائى إلى المدينة فى ظرف نصف ساعة فقط ، فسوف يكون مصيركم جميعكم الموت بالرصاص."
وما هى إلا نصف ساعة حتى عاد التيار بالفعل وأصبحت المدينة مضيئة. وقال القائد الأعلى: "أرأيتم أيها الجبناء . يبدو أنكم لا تعملون إلا بالتهديد والوعيد." ثم سحب القائد الأعلى جنوده وضباطه وذهب بهم إلى محطة ضخ الغاز ليفعل نفس الشىء.
وفى اليوم التالى انقطع التيار مرة أخرى. ونفد صبر القائد الأعلى وقرر أن يبيد جميع العمال والموظفين فى محطة الكهرباء. وتقدم بفرقة انتحارية من جنوده لتنفيذ حكم الإبادة. وعندما اقتربوا من المحطة وجدوها خالية ، لم يجدوا فيها أى عامل أو موظف. لقد اختفى الجميع واندسوا بين الناس فى الطرقات.
هنا أمر القائد الأعلى جنوده بجمع ألف شخص من العابرين فى الشوارع وإطلاق الرصاص عليهم.
بدا تنفيذ هذا الأمر شاقا للغاية على الجنود ، إذ كانوا قد عقدوا صداقات حميمة مع الأهالى ، وقد كانت تلك حيلة من الحيل الذكية التى دبرها الأهالى بأن يكونوا دائما ودودين مع الجنود. ونتيجة لذلك ضعفت معنويات الجنود ، ولم يعد أحد منهم مستعدا لإطلاق الرصاص هكذا دون مبرر على ألف شخص لم يفعلوا شيئا البتة.
وعندما رفض الجنود تنفيذ هذا الأمر استعان القائد الأعلى وهو فى قمة غضبه بالفرقة الانتحارية الخاصة وأمرها بتنفيذ هذه المهمة. ولكن الضباط قالوا له إنه مادام هناك نفر من الجنود لم يمتثل لتنفيذ الأوامر الصادرة، فإن ذلك من الممكن أن يؤدى إلى اندلاع التمرد والعصيان داخل صفوف الجيش.
وفى أثناء ذلك كله تلقى القائد الأعلى خطابا من أصحاب القرار فى بلده صاد حيث كتبوا له يقولون:
" أيها القائد الأعلى .. قائد المعارك الكبرى .. لقد أثبتم أنكم تمتلكون موهبة عظمى فى قيادة الحروب والمعارك وأن لديكم عقلية عسكرية جبارة ونحن نهنئكم بهذا النصر الكبير الباهر ، غير أننا نطلب منكم العودة إلى البلاد وترك هؤلاء المهاويس شعب سين لحال سبيلهم، لأنهم يكلفوننا الكثير. إن هذا الفتح العظيم الذى قمتم به لا يساوى شيئا إذا اضطررنا فى كل مرة أن نوفر لكل عامل فى المدينة جنديا مسلحاَ يقف خلفه لكى يجبره على العمل أو نعين خبيراً خلف كل موظف ليشرح له كيف يعمل. نرجوكم العودة إلى بلدكم، وطنكم ، فقد حُرمنا من حضوركم المتألق بيننا."
لم يكن أمام القائد الأعلى إلا الامتثـال للأوامر رغما عنه ، فجمع القائد جنوده وأمرهم بمصادرة كل ما يمكن أخذه وحمله من معدات وأدوات قيمة وثمينة ، وغادر هو وجنوده سين عائدا إلى بلده صاد وهو يقذف باللعنات والشتائم ، وأخذ يزمجر قائلا:
"ومع هذا .. فقد استطعنا أن نريهم من نحن ، هؤلاء الجبناء..
ماذا يمكن لهم أن يفعلوا الآن .. هؤلاء المغفلون؟
كيف لهم أن يثبتوا الآن من منهم المهندس ومن منهم الطبيب ومن منهم النجار؟ وهم لا يمتلكون أى أوراق أو شهادات ؟
كيف يتسنى لهم تنظيم حياتهم ومعرفة من يسكن الفيلات .. ومن يسكن المساكن المؤجرة وهم لا يستطيعون إثبات الملكيات ؟
كيف يمكن لهم أن يهتدوا إلى أنفسهم وليس لديهم بطاقات شخصية أو عقود ملكية ، لا رخص قيادة ولا سجلات مدنية.
إنهم بدون أسماء وبدون ألقاب.
لابد أنهم سيغرقون فى الفوضى والاضطراب.
وكل هذا بسبب أنهم يرفضون خَوض حربٍ معنا.. هؤلاء الجبناء..!
نعم .. نعم ..
سيغرقون فى الفوضى والاضطراب."
أينما يتواجد جمع غفير من الناس
تحدث دائما أشياء لا يتوقعها أو يخطط لها أحد.
نعم .. من الممكن أن تحدث أشياء لم يكن أحد يرغب فى أن تحدث.
ورغم هذا ..
فإن الناس هم الذين يتسببون فى حدوث هذه الأشياء.
وهذا ما يبدو غريبا.
فكر مثلا فى الزحام الذى يحدث على الطرق.
هل كان أحد يرغب فى أن يكون هناك زحام؟
هل يرغب أحد فى أن يقف فى طريق مترب والجو حار وهو يتصبب عرقا ؟
بالطبع لا ..
فكل واحد لا يريد سوى أن ينطلق إلى أى مكان وفى أسرع وقت.
وهذا هو السبب فى أن الكل يحشر نفسه فى الزحام.
كانت هناك مدينة تعاني من ازدحام مروري حاد بشكل سيّء. ولسبب ما، لم يكن هناك الكثير من إشارات المرور الضوئية، والسبب الأكيد للازدحام المروري المستمر كان هذا: عندما كان سائقوا المركبات يصلون إلى تقاطع ويرون صفّ السيارات عبر التقاطع فإنهم يقفون مشدوهين، وبالرغم من ذلك فإنهم يحاولون أن يحشروا سياراتهم في التقاطع ولذلك كانوا يظنون أنه لن يتم عرقلتهم بالازدحام الذي يأتي من الجانب الأخر عندما يتحرك الصف الذي أمامهم. وبالتأكيد بهذه الطريقة فإنهم كانوا سيعرقلون حركة المرور التي كانت تأتي من اليسار والتي من اليمين. وأكثر من ذلك ما سيحدث صعب تفسيره بكلمات قليلة، ولكن الصورة الحركية الحية التي نصنعها بالحاسوب يمكن أن توضح ذلك في دقيقة واحدة. على أية حال، لنحاول أن نعبّر عنها بالكلمات: كل الطرق من الشمال إلى الجنوب كانت تسمى شوارعاً رئيسية، وكل الطرق التي من الشرق إلى الغرب كانت تسمى جادات أو شوارع أخرى تتقاطع مع الشوارع الرئيسية.
والآن لنقل أن السيدة كومار تقود سيارتها على طول الشارع الرئيسي الخامس باتجاه الشمال مقتربة من الجادة(D). وترى بأن حركة المرور خلف التقاطع كانت بطيئة، ولكنها ما زالت تقود سيارتها باتجاه التقاطع وتضطر للتوقف هنالك تماماً. وبهذه الطريقة تمنع حركة المرور المتجه من الشرق إلى الغرب وبالعكس على الجادة (D).
وما يحدث أثناء ذلك، بأن السيدة ميلر متجهة إلى الغرب على الجادة (D) تقود سيارتها إلى التقاطع المؤدي إلى الشارع الرابع، وبذلك تغلق السيدة ميلر حركة المرور هنالك. وبجوار التقاطعات للشارع السادس والجادة (C) والشارع السادس والجادة (E) ستغلق تماماً، وكذلك الحال بالنسبة للشارع الرابع والجادة (C) والشارع الرابع والجادة (E) وهكذا.. ينتشر الازدحام المروري عبر المدينة كلها وتُسدُّ الطرقات كلها.
كانت السيدة كومار تتحسر وتتنهد كل مساء وتقول: "إنها الحرب في طرقاتنا"، عندما كانت تقود سيارتها عائدة إلى بيتها من العمل. وذات يوم تذكرت السيدة كومار ذلك القول ((السلام يبدأ من عند عتبة بابك)). فقرَّرَت أن لا تحشر نفسها في التقاطعات بعد الآن. ولكن كانت عندما كانت تتوقف أمام تقاطع ما لأن حركة المرور وراء التقاطع كان قد توقفت ليسمح للسيارات التي كانت تأتي من الجانب بالمرور، وعندما يرون هذا فإن سائقي السيارات كانوا يطلقون العنان لأبواق سياراتهم، حتى أنهم كانوا يلوحون لها بقبضاتهم مستائين! ولأنه بالطبع سوف لن تحشر نفسها بالتقاطع عندما يكون ذلك ممكناً، وربما يكون الوقت الذي تستغرقه طويلاً جداً حتى تأتي السيارات من الجانب الذي سوف يعطيها الفرصة للاجتياز. ولكن ما كان أسوأ من أن يغدو سائقوا السيارات مجانين بسبب تصرفها هذا، هو عندما لم تستغل أي فرصة ممكنة للاجتياز والمرور فإنها كانت ستصل إلى بيتها متأخرة نصف ساعة عن موعدها الاعتيادي!
وهذا مما جعلها حزينة لأن عائلتها كانت تنتظرها لتعدّ لها العشاء وحاجة أطفالها لها لتساعدهم في واجباتهم المدرسية البيتية. حقاً، إن الواجبات المزعجة في المنزل كانت كثيرة جداً جعلت من السيدة كومار تشعر بأنها لا تستطيع تحمّل فقدان النصف ساعة هذه. شعرت بأنه كان واجبها تجاه عائلتها لتدير بيتها بالشكل المطلوب بشكل سريع ما أمكنها.
ولذلك بعد أيام قليلة تخلت تماماً عن فكرة عدم حشر نفسها في التقاطعات، ورجعت تقود سيارتها كما كان يفعل الآخرون. ما فات السيدة كومار معرفته من قبل أسبوعين، أنه كان لدى السيدة ميلر نفس الفكرة ذاتها تماماً. كانت أيضاً تبدأ بالتوقف أمام التقاطعات لتفسح المجال للسيارات الأخرى بالذهاب من اليمين إلى اليسار. وكانت أيضاً بدورها تأخذ نصيبها من الأيادي التي كانت تلوح لها مستاءة من تصرفها! وكانت أيضاً قد فقدت نصف ساعة من وقتها وشعرت بأنه يجب عليها أن تكرّس نفسها لخدمة عائلتها.
وكذلك فعلت السيدة ميلر بأن تخلت عن الفكرة تماماً كما فعلت السيدة كومار. وقبل ذلك بأربعة أسابيع كان للسيدة زيمانسكي نفس التجربة التي مرّت بها السيدتان. وأيضاً تخلّت عن الفكرة كما فعلت السيّدتان.
وفي ظهيرة يوم سبت، أخذت السيدة كومار أطفالها إلى ملعب في حديقة عام. جلست على إحدى المقاعد الخشبية وعينيها على أطفالها وهم يلعبون على أرجوحة وعلى القضبان.
وبالصدفة أتت السيدة ميلر والسيدة زيمانسكي إلى الحديقة، وجلستا على نفس المقعد التي جلست عليه السيدة كومار وبدأت السيدات الثلاثة بالحديث عن الجو، والأطفال، وتكلفة المعيشة، والموقف السيء لحركة المرور التي تعيشه المدينة. تنهدت السيدة كومار وقالت: إنها حرب بلا هوادة في شوارعنا.
وقالت السيدة ميلر: هذه المدينة تشبه مستشفىً للمجانين!
وهتفت السيدة زيمانسكي قائلة: الناس يتصرفون بأنانية مفرطة.
وعندها مالت إليهم السيدة فوكودا التي كانت تجلس على المقعد المجاور لهم وقالت: أعذروني لتدخلّي ومقاطعتكم، ولكني أعتقد بأن السلام يبدأ من عند عتبة بابك! لقد قررت من الآن فصاعداً بأني سوف لن أقود سيارتي في التقاطعات بعد الآن. وأعتقد بأنه لابد لأيٍّ منا أن يبدأ بإنجاز ما يمكن أن يكون شيئاً ملموساً بهذا الشأن.
ولذلك قامت النساء الثلاثة بسرد تجاربهن بشكل مثير للسيدة فوكودا سوية!
كانت السيدة كومار تتحسر وتقول: إن الحالة ميئوس منها!
وصرخت السيدة ميلر: إنه لشيء محزن!
وهتفت السيدة زيمانسكي: لن يكون هنالك شيء يمكن عمله!
فقالت السيدة فوكودا: ولكن لدينا واجباً والتزاماً تجاه الناس. لا يمكن أن نكون أنانيين جداً!
وردّت عليها السيدة كومار قائلة: صحيح ما تقولينه.. ولكن كذلك لدينا واجبات والتزامات تجاه عائلاتنا. إنها ليست الأنانية التي جعلتني أقود سيارتي بسرعة جنونية، بل إنها الرغبة لأكون بجنب عائلتي! أنا أعرف تماماً أنه كان يجب علي أن أقود بسرعة أبطأ، بحيث يستطيع الآخرون أن يصلوا بيوتهم مبكرين. ولكن ماذا عن عائلتي؟! سيكون ذلك ظلما لهم.
وقالت السيدة ميلر: إنه لشيء مأساوي! إن كانت القيادة بوعي وإدراك فسيكون هناك تأخير نصف ساعة كل يوم. ولكن لو أن الجميع قادوا سياراتهم بشكل واعٍ وتفهم واضحين، فإن كل شخص منا سيكون في بيته قبل نصف ساعة!
وقالت السيدة زيمانسكي: إنها مأساة فعلاً! أن نكون غير أنانيين ومدركين ومتفهمين لا يساعد في حلّ الأزمة. حتى أنه ستجعل من عائلتك حزينة والسائقين من خلفك سيجن جنونهم!
فقالت السيدة فوكودا: أعتقد أنه يوجد مشكلة ما مع فكرة "أن السلام يبدأ من عتبة بابك"، ولذلك يجب علينا أن نبدأ بحملة دعائية! وكما تروْن كانت لكم نفس الفكرة ونفس الرؤيا، ولكن ليس في الوقت نفسه. وهذا هو السبب في عدم تمكنكنّ من تحقيق النجاح، ولكن لو أن أربعة منا يبدؤون بالقيادة بشكل واع وكمن يدرك الأمور بشكل صحيح غداً...
وقالت السيدة كومار: ... فسيكون هنالك أربعة فقط منا في مدينة يسكن فيها ملايين. حسناً، إذاً سوف نتباحث مع أزواجنا ولو أنهم اتفقوا معنا سنكون عندها ثمانية. ولو أننا تحدثنا مع جيراننا... ويجب علينا أن نبعث برسائل إلى الصحف التي تصدر في المدينة!
وقالت السيدة زيمانسكي: ونعمل نشرات مطوية لتوزيعها مجاناً! ونعمل أيضاً ملصقات توضع على دعامات فيه من الكلمات: ((أنا أقف أمام تقاطع، حتى يمكنك أن تكون أنت في البيت مبكّراً)).. كلا يجب أن تكون((...، حتى يمكن أن نكون نحن جميعنا في بيوتنا مبكّرين))، وكذلك يمكننا أن نتكلم بهذا الموضوع في عروض التلفزيون!
ولذلك تبادلن السيدات الأربع أرقام هواتفهن وبدأن حملتهن الدعائية. ساعدهم في ذلك أولادهن وحتى أزواجهن ليسوّقوا الملفات ويرسمون الرسومات ويكتبون الرسائل إلى الجرائد، وكان الإبن البكر للسيدة كومار قد صمّم ملفاً كومبيوترياً بالصورة الكاريكاتيرية الحية يبيّن فيه كيف ينتشر الازدحام المروري في جميع أنحاء المدينة، ويرسلون الرسائل البريدية إلى أصدقائهم وجميع معارفهم الشخصية، وسرعان ما اكتشفوا أن الكثير من الناس كانت لديهم نفس الأفكار حول "الحرب في الطرقات" ولكن جميعهم في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة، قد تخلوا عن هذه الأفكار مرة ثانية.
وكان قد بدأ الناس يتعرّفون على بعضهم الآخر على الطرقات عن طريق الملصقات الموجودة على الدعامات المخصصة لها، وعندما رأوا الكثير من السيارات التي تحمل الملصقات فقد كانوا لا يهابون أن يطلقوا صرخاتهم عند التقاطعات عندما يقفون ليدعوا الآخرين يمرّون. ومن ثم في جزء من المدينة وجد الناس بأنهم فعلاً قد وصلوا بيوتهم الآن بشكل أسرع مما مضى، بالرغم من أن جميعهم كانوا يقودون سياراتهم بسرعة أبطأ مما عليه سابقاً! وعندما انتشرت الأخبار، سرعان ما تغيّر الجو العام السائد في المدينة فبدأ الناس يطلقون العنان لأبواق سياراتهم ويرفعوا قبضاتهم الآن لمن يعرقلوا السير في التقاطعات. ولكن الناس الواعين والمدركين لخطورة الوضع من الذين تطوعوا لتنفيذ أفكارهم من أجل حلّ الازدحام المروري كانوا سيذهبون إليهم ويسلّمونهم أي ملف يدعو إلى أفكارهم.
وقالت السيدة كومار: حسناً... "السلام يبدأ عند عتبة باب بيتك"، ولكن الأمر أيضاً يحتاج إلى بعض التنسيق.
وأثناء ذلك كانت انتخابات المجلس البلدي للمدينة المجاورة لهم قد أجريت، وكان أحد المرشحين ممن وعد بحلّ مشكلة حركة المرور قد فاز بالانتخابات!
باسم مجلس المنظومة الشمسية المتحدة نقدم التقرير التالى حول كوكب الأرض أعده مجموعة من الباحثين:
ملاحظـة أولى
من واقع متابعاتنا لحوالى 10000 دورة من دورات كوكب الأرض ننصح بعدم ضم هذا الكوكب وسكانه إلى مجموعة المنظومة الشمسية المتحدة.
يوجد فوق كوكب الأرض نوع من السكان يتصف بالذكاء وقد تزايد بكثرة خلال المليون دورة الأخيرة وانتشر فى ربوع الكوكب. هؤلاء السكان يطلق عليهم بشر. وعلى الرغم من ذكائهم ، فإنهم اليوم – وقد وصلت أعدادهم إلى ستة مليارات – أصبحوا عاجزين عن توفيق أوضاعهم وتصريف شئونهم وأفعالهم بالطرق السليمة والمنطقية. فغالبا ما يدمر البعض منهم ما ينجزه الآخرون ، ويسلبون الغذاء والكساء من بعضهم البعض. وعلى الرغم من أنهم يصنعون أشياءً تيسِر عليهم العيش وتجمل حياتهم ، فإنهم فى المقابل يدمرون ويلوثون الهواء والماء والزرع فوق كوكبهم فيصعبون الحياة على أنفسهم من جديد.
ولدى هؤلاء السكان عادة مذمومة يعانون منها هى القتال بين فئتين ويطلقون عليها اسم "الحرب". فعندما تقوم الحرب تنقض جماعات كثيرة من البشر على بعضها البعض ، وتفنى كل جماعة الأخرى فتدمر البيوت وتسلب الزاد والقوت. وتطلق كل جماعة على الأخرى اسم "عدو" وتتسبب كل منهما فى حدوث كوارث وفواجع.
وقد حاولت مجموعة الباحثين معرفة الأسباب التى تدفع البشر إلى هذا التصرف الممقوت. فوجدوا أن البشر أنفسهم قد فشلوا فى إيجاد إجابة شافية لهذا السؤال. والغريب فى الأمر أن كثيربن من بنى البشر يرفضون ويستنكرون تلك العادة الوحشية ويعتبرونها مصيبة كبرى أحلت بالبشرية. لكن هناك أيضا من يستسيغ الحرب ويستمتع بمشاهدة صورها.
أما الذين يرفضون الحرب فلديهم المبررات المختلفة حول أسباب اندلاعها. البعض منهم يرى أنها حالة من الجنون تنتاب جماعات من البشر، على حين يعتقد البعض الآخر أن هناك روحين تسكنان نفوس البشر. كل روح مختلفة عن الأخرى. روح طيبة تحب الآخرين وروح شريرة تكره الآخرين.
وهناك من يعتقد أنه بالرغم من كون الحرب شيئا مفزعا فإنها ضرورية من حين لآخر. وكثيرا ما تندفع جماعتان من البشر إلى الحرب فتعلل كل جماعة منهما ما فعلته بقولها: "نحن لا نريد الحرب .. لكن الآخرين هم الذين دفعونا إليها."
أما المجموعة التى أعدت البحث ، فهى تميل إلى الاعتقـاد أن المشكلة الرئيسية للبشر أنهم أصبحوا غير قادرين على العيش فى جماعات كبيرة فى وئام وانسجام.، إذ يبدو أنهم لا يدركون أن هناك جماعات أخرى سواهم تعيش معهم فوق سطح كوكبهم.
ولتقريب هذا المعنى إلى أذهان البشر، يمكن أن نسوق مثلا لنوع من الكائنات الحية التى تعيش فوق كوكب الأرض يطلق عليهم البشر اسم "ثور". فإذا قمنا بربط ثورين فى أداة متحركة يطلق عليها البشر اسم "عربة"، وجعلنا الثورين يشدان تلك العربة ، سنلاحظ أن ثورا منهما سيقوم بشد العربة فى اتجاه الشمال ، أما الثور الآخر فسيشد العربة فى اتجاه الغرب. وسنجد فى النهاية أن الثورين سيصلان بالعربة إلى الشمال الغربى على الرغم من أنهما لم يقصدا هذا الاتجاه. وهكذا ... فإن جميع البشر فوق الكوكب لم يدركوا أنهم مرتبطون ببعضهم البعض مثل ارتباط الثورين بالعربة. لكن تصرفات البشر أعقد بكثير من مجرد شد عربة. ونتيجة تلك التصرفات الصادرة من ستة مليارات كائن من البشر أصعب بكثير من حساب هذا الطريق الذى قطعه الثوران. ويبدو أن ذكاء البشر لا يصل إلى فهم تلك المسألة حتى اليوم.
وفيما يلى نقدم تقرير مجموعة الباحثين حول أسباب نشوب الحرب فوق كوكب الأرض:
فى الماضى ، قبل آلاف الدورات لكوكب الأرض ، كان سكان الكوكب يعيشون على الصيد وجمع الثمار من الغابات. ولم تكن الحرب شيئا معروفا لديهم بعد. كان سكان الكوكب يعيشون فى قبائل صغيرة مع بعضهم البعض يجوبون الغابات. كل قبيلة تتكون من ستين إلى ثمانين شخصا فقط ، ربما يكونون عشر عائلات أو خمس عشرة عائلة.
وكان لكل قبيلة منطقة الصيد الخاصة بها التى تتجول فيها على مدار السنة للبحث عن الحبوب والثمار والِفطر وجمع جذور النباتات والقواقع والضفادع ، وأيضا صيد ما يمكن اصطياده من الحيوانات. وقد عاشت القبائل فى الوديان بين الجبال ، كل ثلاث أو أربع قبائل فى منطقة ، فالغابة لا تكفى لإطعام أعداد كبيرة من الأفراد. ولم تكن القبائل تعرف الملوك أو الرؤساء ، ولا تعرف المحاكم ولا الشرطة ولا السجون. ولم يكن لديها قوانين. ولِم القوانين؟ فحين يقوم شخص بفعل شىء لا يروق الآخرين ، فإنهم يجلسون مساء مع بعضهم البعض حول النار يتدفئون ويتناقشون. وحين يريدون اصطياد الغزلان ، فإنهم يتبعون أمهر صياد فيهم. وحين يأتى وقت جمع العسل من قلب خلية نحل مفترس ، فإنهم يتبعون المرأة التى تتعامل مع النحل. أما حين يشتد الخلاف بينهم ، فإنهم يتبعون نصيحة الرجل الأكبر سنا أو المرأة الأكبر سنا فيهم لما لديهما من خبرة بالحياة.
وكانت تلك القبائل تعيش مترابطة فى تضامن واتحاد وتقتسم كل شىء فيما بينها، لأنها لا تقوى على البقاء إذا لم تفعل ذلك. وعندما يتزايد عدد الأفراد فى قبيلة ، كان عليها أن تنقسم ليذهب نصف أفرادها للبحث عن مناطق أخرى للصيد. وربما تطأ القبيلة الجديدة منطقة خاصة بقبيلة أخرى. هنا وعندئذ .. من الممكن أن ينشأ نزاع بينهما ، ولكن سرعان ما كان هذا النزاع ينتهى ولا يتعدى كونه مشاجرة بين طرفين. وعندما تلجأ قبيلة منهما إلى الفرار كان النزاع يتلاشى كأنه لم يكن. وفى العادة لم تكن تنشأ تلك المنازعات إلا حين تضطر قبيلة منهم إلى الرحيل إذا كثر عدد أفرادها. أما فيما عدا ذلك ، فلم يكن هناك ما يدعو للنزاع أو القتال.
ولم تكن لمثل تلك القبائل الرغبة فى أن تعمل دوما على زيادة رقعة المنطقة التى تصيد فيها لأنها لا تملك القدرة على الانتفاع بالمساحات الكبيرة. ولهذا لم يكن من المنطق السطو والاعتداء على منطقة مجاورة لقبيلة أخرى لأن الفريق المعتدى لن يجد ما يستولى عليه ، فجميع القبائل فى ذلك الوقت لم يكن لديها سوى مخزون قليل من الصيد أو الطعام. فقد كانوا يعيشون على قوت يومهم ، يوما بيوم.
ومنذ حوالى 6000 دورة من دورات الكوكب ازدادت الفروق المناخية على مدار فصول السنة ما بين الجفاف والبرودة. وكان من تأثير ذلك أن بعض النباتات أصبحت لا تنمو، كذلك انقرضت بعض الحيوانات التى كانت تتغذى على تلك النباتات. وكانت هناك نباتات ذات جذور قوية استطاعت أن تصمد أمام التغير المناخى واكتشف الإنسان كيف يرعاها ويعتنى بها. كما اكتشف الإنسان كيف يمكن أن يزرع فى مساحة ضيقة الكثير من الحبوب والبذور ، وفطن إلى أن هذا أفضل من التجوال والرحيل من منطقة لأخرى والاكتفاء بما يجده فى تلك المناطق من طعام. من هنا قررت القبائل عدم التنقل والترحال وقام أفرادها لأول مرة ببناء القرى وأصبحوا مزارعين.
ولقد احتفظ هؤلاء المزارعون بالكثير من عادات الصيد القديمة التى كانوا يألفونها. فكما كانوا يخرجون للصيد جميعا، أصبحوا الآن يفلحون الأرض معا فى الحقول. لم تكن الأرض ملكا لأحد ، كانت ملكا لهم جميعا. وعندما تستدعى الحاجة إلى مناقشة أمور مشتركة بينهم ، كان سكان القرى يجتمعون لمناقشة هذه الأمور دون اللجوء إلى اختيار حكام من بينهم. وحين يكون هناك ضرورة لتنظيم شأن ما ، كاستصلاح قطعة أرض أو بناء مجمع للبلدية أو القيام برحلة صيد ، فإنهم كانوا يطلبون ممن يمتلك الخبرة والمعرفة فى هذا الشأن تولى زمام القيادة سواء كان رجلا أم امرأة. وكان هذا النظام هو السائد بينهم. وقد كان الرجال لا يزالون يخرجون للصيد على الرغم من تضاؤل فرصه عما كان من قبل. وكان معظم العمل فى الحقول يتم بواسطة السيدات. ولأن الطعام الرئيسى كان مصدره الحقل ، فإن الكلمة العليا كانت للسيدات وليس للرجال.
كانت لحياة المزارعين سلبياتها وإيجابياتها.
قديما، عندما كانوا يعيشون على الصيد وجمع الثمار والترحال فى الغابة لم تكن فلاحة الأرض تعنيهم ، ولم يكن موت نوع من النبات يقلقهم ، حيث كانوا يجدون غيره فى مناطق أخرى من الغابة. ولكنهم الآن .. مستقرون فى قطعة أرض. فإذا هجم عليهم الجفاف يتضورون جوعا. وصار غذاؤهم محدودا لا تنوع فيه فضعفت أسنانهم ونحلت أجساد أطفالهم. وصار عملهم شاقا يسير على وتيرة واحدة. وأصبحت حياتهم خالية من التنوع والمغامرة والإثارة كما كانت من قبل. لكن العودة إلى الوراء كان مستحيلا. يكفى أن حياة الصيد والترحال كانت تحتاج إلى مساحات شاسعة من الأرض ، بينما حياة المزارعين تحكمها مساحات محدودة.
أما الجديد فى حياة المزارعين فيتلخص فى أنهم أصبحوا ينتجون أكثر مما يستهلكون. فلم يعودوا يعيشون من قوت يومهم فقط ، بل أصبح فى مقدورهم جمع مخزون من الطعام لتأمين حياتهم فى الأوقات الصعبة حين يهاجمهم الجفاف أو يباغتهم الطوفان. وعندما كان المخزون يفيض فى عام من الأعوام ، كانوا يستثمرون الفائض لتنمية أشياء أخرى ، فيلجأون مثلا إلى الاكتفاء بزراعة عدد أقل من الأفدنة فى مقابل أن يقوم نفر من المزارعين بشق ترعة للرى حتى تخرج الأرض محصولا أكثر وفرة فى العام الذى يليه فيتضاعف بالتالى المخزون.. وهكذا.. . ومع نمو المخزون يجد المزارعون فرصة سانحة لالتقاط الأنفاس والراحة أو توجيه جهودهم لاستثمارات جديدة. فإذا كانت الأرض لا تحتاج كل الأنفار لزراعتها ، فإن البعض كان يتجه إلى مهنة الحدادة .. وآخرين إلى صناعة الخزف والفخار ومهن أخرى مختلفة. ومع تطور تلك الفنون والصناعات كانت حياة المزارعين تتطور أيضا مع السنين. وبمرور الوقت تخصص البعض منهم فى مهن مثل التمريض أو الدعوة للدين أو تأليف الأغانى. وعلى الرغم من أن هذه المهن ليست فى مجال الزراعة ولا علاقة لها بنمو المحاصيل فقد جعلت الحياة أكثر ثراء وبهجة. وبدأ التقدم يأخذ مجراه على مهل وبخطى حثيثة . وبدأ الناس يصنعون الحلى ويرسمون اللوحات وينحتون التماثيل ويؤلفون الحكاوى والأشعار. وأصبحت الملابس أكثر رونقا وتعددت فنون الرقص وكانت الحياة تتسم بالوداعة والسِلم.
أما الصيد فكان لا يزال موجودا فى مناطق أخرى وكان الصيادون يقتفون أثر حوافر الأغنام. كانت الإبل والغزلان والخراف والماعز ترعى فى الشتاء فى السهول والوديان وفى الصيف فوق الجبال والمرتفعات. وكان الصيادون يقتفون أثرها وهم يتنقلون. وكانوا يجدون التمر وثمار البلوط واللوز والفستق فى السهول ، ويجدون التفاح والكمثرى على المرتفعات. وكانت هناك الأعشاب البرية التى تنمو على ارتفاعات مختلفة فى مختلف فصول السنة. وكلما كان الصياد محنكا وماهرا فى الصيد عرف كيف ينتقى الفريسة التى يمكن الإيقاع بها. وكان الصيادون يستهدفون الكباش الصغيرة ويتركون إناث الحيوانات حتى يتركوا الفرصة للقطيع أن يتكاثر. كما كانوا يصطادون الدببة والذئاب والثعالب حتى لا تفتـك بالإبل والماشية والأغنام. وكانوا يدفعون القطيع إلى مناطق آمنة ليسهل عليهم الاعتناء بها. كانت الغزلان والكباش أكثر وداعة من الخراف والماعز وتألف سريعا صحبة البشر ولذلك كان الصيادون يفضلون اقتفاء أثرها.
ومع مرور الوقت تحول الصيادون إلى رعى الإبل والأغنام وأصبحوا رعـاة. وكانت حياة الرعاة تشبه إلى حد كبير حياة الصيادين. فقد كان الرعاة مثل الصيادين يتنقلون على مدار السنة فى الأراضى الشاسعة للمراعى الخضراء. وكانوا أيضا يقتفون آثار الحيوانات التى لا يستطيعون ترويضها. ولأن هذا العمل كان مرتبطا بالرجال وليس بالسيدات، فقد أصبح الرجال هم المسئولين عن القطيع بل اعتزوا بما يمتلكون من إبل وأغنام، وهذا ما جعل الرجل فى تلك المجتعمات هو المتسيد وله الكلمة العليا.
وجمعت الرعاة والمزارعين مصلحة مشتركة. فقد كان لدى كل طرف منهما شيئ يحتاجه الآخر. كان الرعاة يحصلون من المزارعين على الحبوب والخبز والأوانى الفخارية، على حين كان المزارعون يحصلون من الرعاة على لحم الإبل والماشية وجلود الحيوانات والجوز واللوز والأعشاب البرية.
القوى والضعيف
وفى يوم من الأيام اكتشف رئيس قبيلة الرعاة وهو راع وصياد له نفوذ كبير فى قبيلته أنه من الممكن أن يأخذ الرعاة ما يحتاجونه من المزارعين دون إعطائهم شيئا فى المقابل. لم يكن لدى المزارعين دراية بأمور الصيد والقنص ، وبالتالى لم يكونوا محاربين بارعين. أما بالنسبة للرعاة فقد كانوا أقرب إلى حياة الصيد من المزارعين ونظروا إلى المزارعين على أنهم مجرد صيد أو فريسة جديدة. وعلى هذا النحو دأبوا على مهاجمتهم والاستيلاء على ما لديهم. ولكن .. لا يعنى هذا أنهم تحولوا فجأة إلى أشرار، بل أغلب الظن أنهم ظلوا محتفظين بأسلوبهم المعتاد فى السعى وطلب الرزق وهو الصيد ، وطبقوا هذا الأسلوب على فريسة من نوع آخر، وهم المزارعون وما يملكون من ماشية وحبوب وغلال. ومع هذا .. ظل الرعاة فيما بينهم متعاطفين، لا يقسون على أحد، يساعدون بعضهم البعض كما كانوا دائما، يقتسمون الغنائم ، ويشتركون فى تنظيم أمور معيشتهم ، يحنون على أطفالهم ويلاطفونهم. لقد كانوا صيادين وليسوا محاربين ، كان الصيد هو ما يعرفونه فى دنياهم وما تربوا عليه. أما الحرب فى حد ذاتها فلم تكن غايتهم، ومع ذلك .. فمن خلالهم .. وُلِدت الحرب وخرجت إلى الوجود.
ولكن .. لماذا كان الرعاة يسطون دائما على قرى المزارعين وينهبون خيراتها؟
لقد اعتاد المزارعون إنتاج كميات تفوق بكثير ما يستهلكون بالفعل. ولو كان الرعاة فى أثناء سطوهم يتركون شيئا فى مخازن الغلال ولا يسلبونها بالكامل ، أو يتركون بعض الأغنام ولا يسرقون القطيع كله ، لو أنهم فعلوا ذلك ، إذن لاستطاع المزارعون أن يجدوا بطريقة أو بأخرى ما يقتاتون به حتى موسم الحصاد القادم. ولكن الرعاة كانوا دائما يسلبون خيرات المزارعين عن آخرها، وكان المزارعون بدورهم يسارعون بتعويض ما سُلب منهم، فتمتلىء المخازن بالحبوب مرة ثانية ويفيض المحصول ويجد الرعاة ما يمكن الاستيلاء عليه .. وهلم جرا.
السادة والعبيد
ومع الوقت .. عقد الرعاة نوعا من الاتفـاق مع المزارعين يغنى عن السطو والاعتداء. وكانت تلك الاتفاقية تنص على أن يقدم المزارعون الحبوب والغلال والماشية طواعية للرعاة، وهو ما أطلقوا عليه اسم "جزية" أو "ضريبة" – على أن يكف الرعاة عن السطو على المزارعين ، بل يقومون فى المقابل بحمايتهم والدفاع عنهم. ومع استقرار هذا الوضع أصبح الرعاة سادة يتحكمون ويحاربون ، وأصبح المزارعون عبيدا لهم.
وحدث شئ يستحق الدهشة والتعجب. فعلى الرغم من أن هؤلاء الرعاة الذين صاروا أسيادا لا يعملون، بل يستهلكون بإسراف ما ينتجه المزارعون ، فإن المجتمع فى مجمله كان مجتمعا يملك فائضا كبيرا يكفى نفسه ويزيد أكثر مما كان من قبل وقت أن كان المزارعون أحرارا غير مستعبدين. أما تفسير ذلك فهو أن المزارعين صاروا ينتجون بوفرة ولا يحتفظون لأنفسهم سوى بالقليل من إنتاجهم عكس ما كانوا فى سابق عهدهم. فعندما كان المزارعون أحرارا يملكون وحدهم خيراتهم ويتحكمون فى تنظيم أوقاتهم لم يكن أحد يضطرهم أو يجبرهم على بذل أقصى ما يمكن القيام به من أعمال ، كما كانوا أيضا لا يرضون بالقليل الذى يكفل لهم العيش فحسب. وهل كان لأى عاقل فيهم أن يرضى بذلك؟
وهذا هو بالضبط ما يُفرض عليهم اليوم من سادتهم: وهو أن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد وأن يقنعوا بأدنى ما يمكن أن يكتفوا به للعيش.
ولأن هذا المجتمع – مجتمع المزارعين والأسياد - كان ينتج فائضا كبيرا ، أكبر من أى مجتمع آخر، فكان لابد من شق المزيد من الترع للرى وصناعة المزيد من الآلات واكتشاف المزيد من المخترعات أكثر من أى مجتمع آخر. بل أصبح فى إمكان هذا المجتمع إنتاج أسلحة كثيرة وبناء التحصينات الجيدة. باختصار كان هذا المجتمع يتفوق على غيره من المجتمعات التى كانت موجودة فى ذلك الوقت وكانت لديه القدرة على النمو سريعا وإخضاع المجتمعات الأخرى وإجبارها على تقليده.
لم تكن قبـائل الصيادين الأولى تهتم بتوسيع منطقة الصيد الخاصة بها ، إذ أنه لم يكن فى استطاعتها استغلال تلك المناطق الاستغلال الأمثل. وكذلك فعل المزارعون ، فقد كانوا لا يهتمون بتوسيع رقعة الأرض التى يزرعونها لأنه لم يكن فى مقدورهم استصلاح وزراعة أراض كثيرة. ولكن .. حين انقسم المجتمع إلى سادة وعبيد ، كان الأسياد وهم الحكام يتطلعون دائما لضم الكثير من القرى والمناطق تحت سيطرتهم. وكلما كثرت المناطق التى يحكمونها ، حصلوا على المزيد من الضرائب التى يفرضونها على الأهالى. وكلما تزايدت حصيلة الضرائب، أمكن الصرف على المزيد من التحسينات والتى بدورها تدعم سلطانهم ونفوذهم مرة أخرى.
وسريعا ما ظهر محاربون فى مناطق أخرى لهم نفس التوجه، فهم يحاربون
ويسيطرون على مجتمع المزارعين، وكان على الحكام أن يحذروهم. ومن هنا ...أصبحت الحرب سلوكا مألوفا بين القبائل والمجتمعات ، بل تحولت إلى عـادة تحكمهم.
تلخيص
ولنقم بتلخيص تلك الحكاية المؤسفة:
ففى البداية ، عندما كان الفرد حرا، كان يستغل الوقت المتاح بعد العمل لصنع أشياء تجعل الحياة أكثر بهجة ومتعة. وكان الأفراد يستثمرون وقتهم لتأليف الموسيقى وتصميم الرقصات وحكى القصص وصناعة الحلى وزخرفة ملابسهم وتزيين أجسادهم.
أما عندما سيطر الحكام المحاربون على المجتمعات والقبائل ، فقد أجبروا الأهالى على زيادة الإنتاج حتى يستطيع الحكام الحصول على المعادن وصناعة السلاح، وبناء الأسوار الدفاعية والأبراج العالية ، وكلها أشياء لا تجلب للفرد سوى التعاسة والألم.
ومن عجائب الأمور ..أن البلدان التى كانت تحارب كان يوجد فيها الملبس الجميل والحلى الثمين والتماثيل الضخمة والموسيقى الجميلة. لكن كل تلك الأشياء الجميلة لم تكن فى متناول الشعب ، بل كانت ملكا للحكام فقط. كان الحكام يجلبون أمهر الفنانين إلى قصورهم، يقدمون لهم أفخر أنواع الطعام وأفخم الملابس ويوفرون لهم أطيب الإقامة فى أحسن البيوت حتى يتفرغوا طوال اليوم لإبداع أجمل ما عندهم. ولكن ما يبدعونه من فنون لم يكن ينتفع به عامة الشعب.
وكان يمكن أن نجد فى كل قرية موسيقى فنان أو صانع حلى ماهر، ولكن هؤلاء كانوا فى نفس الوقت مزارعين ولم يكن لديهم بالتالى الوقت الكافى لتنمية مواهبهم الفنية وصقل مهاراتهم.
ونستطيع القول إن مجتمع الحكام المحاربين كان فى العادة مجتمعا غنيا، إذ كان الحكام يعيشون فى ثراء ويتحكمون فى ثروة البلاد بينما يعيش معظم الشعب فى فقر وجهل. وهذا هو السبب الحقيقى الذى كان يجعل الحكام أقوى من أفراد الشعب ويجعل الحكام أيضا يخضعون سائر أفراد الشعب تحت حكمهم وسيطرتهم.
من هنا .. أصبحت الحرب تمثل عالم القتال والسلب والقمع.
ولم تكن طريقة العيش التى تجلب السعادة والمتعة لمعظم أفراد الشعب هى السائدة، بل كان أسلوب العيش يفرض على الفرد توفير الفائض الأكبر من الإنتاج لجعل التقدم السريع ممكنا. أما إلى أين يمكن أن تنقـاد الشعوب ، فهذا ما سوف نعرض له هنا من خلال مثال لمنطقة كان يُطلق عليها الإمبراطورية الرومانية:
فسرعان ما اكتشف الأمراء المحاربون من الرومان أنه بإمكانهم مضاعفة ثرواتهم إذا ما جعلوا أعداءهم المهزومين عبيدا لهم. لم يكن للعبـد أي حقوق ، كان عليه أن يعمل بجد مثل الحيوان ، وكان غالبا ما يعامل معاملة أسوأ من الحيوان. وفى الواقع لم يكن العبد يعمل إلا إذا أُجبر على العمل. ولم يكن العبد يعيش طويلا ، فقد كان لا يحظى حتى على العناية المتوفرة للحيوان. ولكن .. لم تكن تلك هى المشكلة بالنسبة لأمراء الرومان. فقد كان يمكنهم خوض المزيد من الحروب وأسر المزيد من العبيد. وقد وصل الأمر فى روما إلى أن نبذ الرومان الأحرار العمل وأصبحوا لا يبتغونه ، إذ كان العمل فى نظرهم من مهام العبيد. وركزت الإمبراطورية الرومانية على الحروب التى تدخل فيها دوما لجلب أكبر عدد ممكن من العبيد الذين يتولون القيام بجميع الأعمال ويوفرون الغـذاء لروما الكبيرة. أما الرومان الأحرار فقد كانوا كلهم إما جنودا يخوضون الحروب أو عاطلين يتسكعون ولا عمل لهم ، فيما عدا قلةً منهم كانوا يعملون فى خدمة القيصر ، وعدداً منهم يمتلكون الأراضى وآخرين يتاجرون فى العبيد.
ودأبت الإمبراطورية الرومانية على شن حروب كثيرة ، واتسع ملكها وتمدد. ثم جاء يوم .. انهارت فيه تلك الإمبراطورية وسقطت. لقد اتسع نطاق حكمها وتضخم حتى إن الجنود الرومان عجزوا عن الدفاع عن الحدود البعيدة المترامية ، وعجزوا أيضا عن حراسة العبيد وإخضاعهم فى جميع البلاد وعرضها. و جاء وقت أصبحت فيه الحروب لا تعمل على تقوية البلاد ، بل تضعف من شأنها ، حتى انتهى المطاف إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها.
وظهرت إمبراطوريات أخرى حلت محل الإمبراطورية الرومانية. ونشأت أشكال أخرى من الحياة الاجتماعية. ولكن بقى هناك شىء لم يتغير: فقد غلب طابع الحياة الذى يجبر الفرد على الإنتاج وتوفير الفائض الأكبر منه ، وليس نمط الحياة الذى يهب نوعا من الراحة والمتعة للفرد. فقد كانت الإمبراطوريات أو البلاد التى تملك فائضا كبيرا من الإنتاج هى التى تمتلك القدرة على أن تخضع البلدان الأخرى وتملى عليها طريقة العيش. ولهذا لم تختف الحروب إلى يومنا هذا من حياة البشر. وتستغل الشعوب الجزء الأكبر من الفائض لديها لإنتاج أنواع جديدة ومتطورة من الأسلحة. فاليوم يمتلك البشر أسلحة تستطيع تدمير الحياة كلها من على كوكبهم. ولهذا أصبح هؤلاء البشر يمثلون خطرا على كوكب الأرض.
ولن يستطيع البشر اكتشاف نوع جديد من أنواع الحياة الاجتماعية فوق كوكب الأرض إلا إذا أدركوا أن الحرب والقمع لا يجلبان سوى ثروة ظاهرية. ولابد للبشر أن يدركوا أن الثروة الحقيقية لا تكمن فى حجم الثروات التى يمكن لشعب أن يمتلكها، والتى تمكنه بدورها من زيادة الإنتاج ، بل إن الثروة الحقيقية للشعوب فوق هذا الكوكب تكمن فى أن يجد معظم سكان الكوكب وقتا كافيا لسماع وعزف الموسيقى والرقص وتبادل الأحاديث واللعب والتأليف والرسم والحكى وممارسة الرياضة. باختصار أن يجد الفرد وقتا لتجميل الحياة من حوله. أما فيما عدا هذا .. فإن الحروب يمكن أن تنشأ فتدمر الكوكب بأكمله فتنهار الحياة كما حدث مع انهيار الإمبراطورية الرومانية.
ختـام
وأخيرا ..
فإن الأمر قد حُسم بعدم قبول سكان كوكب الأرض فى مجموعة المنظومة الشمسية المتحدة طالما أن سكان هذا الكوكب لا يدركون و لا يفهمون أبسط القواعد الأساسية للحياة معا فى جماعات كبيرة وكثيرة.
هذا هو ما انتهى إليه تقرير مجموعة الباحثين.
Ever since I started writing books for children, I have considered it important to deal with the difficult subject of war and peace in a way that children can understand. It seems to me that it is not enough to tell children that war is terrible and that peace is much nicer. Although even that is a step forward, of course, considering there was once a youth literature that glorified the military and combat action. But most children in our latitudes know that war is something terrible and peace is much nicer. But is peace possible? Or is war an unavoidable destiny that keeps befalling humankind? Doesn’t our history class, as well as the evening news, teach us that war has always existed everywhere in the world and is still with us? A culture of peace, understanding of others, peaceful resolution of conflicts – all of that is well and good: but what if the others do not want to go along?
I cannot imagine how we can banish war from the life of humankind, if we do not search for the causes of war. Only when the cause of a disease is discovered, can a focused and effective method be found to fight it.
It is true that I just skipped all my history classes at university, but at home I have continued my studies of history for myself to this day because, as a writer, the question of what determines people’s actions and thoughts is naturally always on my mind. But of course I cannot claim to have found the philosopher’s stone or that in my stories I could absolutely explain the causes of war. And I also cannot present a complete recipe for the avoidance of future wars. But I want the stories to do more than just give people "food for thought." Writers are always trying to give people something to think about, but at some point, someone is going to have to start thinking. The stories I have collected here are intended to suggest a direction in which a person can continue to think; they are intended to convey a feeling for where and how to search for the causes of war.
Maybe the intentions of the book can best be summed up like this: I try to show how our actions can be interconnected in such a way, that the ones who do not try their best to further their own interests must perish. But that on the other hand by each of us trying to further our own interests we may in fact unintentionally increase the loss or make worse the damage for all of us. And that we cannot escape this dilemma unless we communicate with each other and coordinate our actions. This moral is simple enough, but the hard thing is to really see through the complex ways in which the actions of individuals, groups, nations, states on this planet are interconnected.
I am trying to teach children to begin to recognize that sort of social mechanism, and I think that this is a novel approach in children's literature.
The Dreamer took shape during a weeklong workshop, arranged by the cultural initiative "Fireworks" in the Oetz valley, Tyrol. The theme was "Free as the Wind and the Clouds." There the children and I wrote a "Wind and Cloud Book."
I wrote The Blue Boy for the children’s television series "Siebenstein" presented by the German television network, ZDF. I wrote it shortly after the wall came down between East and West Germany in 1989, when the whole world was seized by a short-lived euphoria of peace. When the story appeared in a book, we had already experienced the Gulf War. This story is about the hardening of the soul that can produce fear. The point of the story is not that the boy throws away his gun in the end but rather why he throws it away. "Well, you could just throw away your gun," is not enough. First there has to be hope for change.
Fear is an example of how we often do not use our reasoning power to find out how things really are, but use it only to justify our desires or urges, our fear or our hatred. The human being's ability to deceive itself is one of its most amazing qualities. In class you may want to find more examples with your students.
The same paraonoid logic that is demonstrated in Fear is depicted in Fear Again, this time on the level of the state.
The Strange People from the Planet Hortus is quite simply about the costs of waging war.
When the Soldiers Came shows in a condensed form, which can already be understood by quite small children, that conquest and exploitation are the essence of war, not difference of opinion or race or culture or conflicting interests. It argues that an egalitarian society has no need for conquest whereas a hierarchical society cannot exist without conquest. The theme is expanded in Report to the United Solar System's Council.
The Great War on Mars is an attempt to show how
the fact that everybody pursues his or her own – actually harmless and even justifiable - self-interests
can lead to results that nobody intended.
When I tell the story I usually make a break after: "Maybe we should have given our field marshal the pink slip!" said the Moffers.
I say: "Well, here the story must end, mustn't it? What else can happen
now but wheeeee - WHAM!" I let it sink in for a few seconds, then I
take up the story again and tell the happy ending, making it clear that
this is not very likely to happen in real life.
We often have very
interesting discussions when I ask the children who was responsible for
the whole desaster. Whoever they name, I defend them and show that they
had good reasons for acting - or not acting - the way they did. I ask
them: What difference would it make if one of the peasants refused to
sell his potatoes to the army? Someone else would be able to sell even
more potatoes and the peaceloving peasant might starve with his family.
So if he can't make a difference, isn't he right to do what is best for
his family? So what can be the solution?
The theme is expanded in At Your Own Doorstep.
The Slave is about how it can happen that people create systems of which they themselves become prisoners. You might want to ask you students why the slave only can think in terms of master and slave.
The Strange War shows a possible form of passive resistance. What kind of resistance is possible depends, of course, on the goals of the aggressors. If the aggressors are intent on wiping out the other nation, this form of resistance will not be possible. But most wars are waged to subjugate people, not to exterminate them.
At your Own Doorstep was
originally inspired by the traffic situation in Beirut. But of course
road traffic serves here as an example of a special case of societal
entanglements. If you enter the words "Peace begins" in any Internet
search engine you will be amazed how many pages you get of the form
"Peace begins at your own doorstep", "Peace begins within your soul" and
so on. But what is the next step?
The philosopher Sir Karl Popper
warned of revolutionary change. He advocated "piecemeal social
engineering", small changes which by and by will lead to a better
society. He argued that social experiments on a smaller scale could not
cause so much damage and could more easily be reversed if they were not
successful. There is much to what he said, but in my opinion he
overlooked one thing: social systems tend to settle in a relatively
stable equilibirium. If you put a little ball on the bottom of a round
bowl and you push it a little, it will move a little towards the edge of
the bowl and them roll back. If you push it a little harder it will
climb up a little higher towards the edge and then roll back again. You
need a certain minimum of force to push it over the edge of the bowl.
Anything less will just not make a difference.
Take the example of a
city council that wants to improve a "bad area" of the town. The
streets there are strewn with litter, so the city council decides to put
up litter bins. But to no avail. Almost nobody uses them.
Why is that?
In
the "nice area" of the town, if you throw away a banany peel on the
sidewalk a person who sees you doing it will approach you and ask you to
use a litter box, or they may even pick up the banana peel and put it
in a litter bin. In a "nice" area one banana peel on the sidewalk makes a
big difference. And everybody living in a "nice" area wants it to
remain nice.
In the "bad" area of town one banana peel more on the
sidewalk does not make a difference at all. And putting your banana peel
in the litter bin does not make a difference either. So why take the
trouble? If you want people to use the litter bins at least you must
remove all the litter from the streets first, so that putting your
banana peel in the litter bin will make
a difference. Probably you will also have to educate the people because
they have been used to throwing away their litter in the streets. They
will have to reach some sort of agreement that clean streets are good
for their health. Or - because the "bad" area of the town is probably
the poor area - they may have more pressing problems on their hands than
litter.
So even if you want to adopt the piecemeal approach for
social change you must find out what is the minimum effort necessary to
overcome the stable equilibrium of a certain situation.
The bad news
is that situations where people work together for a common good are
usually less stable than situations where everyone fends for themselves.
One careless litterer will not upset the equilibrium of the "nice"
street. But if, let's say, 10% or 20% of the inhabitants get careless
and throw their litter on the street, the rest of the population may
soon give up and get careless too. On the other hand, if 10% or 20% of
the inhabitants of the dirty street start using the litter bins they
still will not make a visible impact and will not be able to change it
into a clean street if they do not proactively try to convince their
neighbors.
Report to the Council of the United Solar Systems sums up all of the themes, and maybe it is what the blue boy discovered during the years he studied the blue planet, while gazing through the telescope.
Yer is Turkish and means Earth. Nin is Jpanese and means person. Wojna is Polish and means of course war.
It was at the same workshop in the Oetz valley that I wrote the first drafts of this story. The children were encouraged to ask me for stories, and one girl, who coincidentally shares my last name and whose first name is Nina, brought me a note that said, "Martin, please tell me why there are wars." The story is based, among other things, on the research of Lewis Mumford (The Myth of the Machine), but naturally also on my own reflections.
I used to think that there had been a time when humankind did not know war. When I read Jane Goodall’s account of a war between chimpanzees, I had to revise this opinion. Even in the age of the hunters and gatherers it was possible that one band had to find new hunting grounds and in the process got into a conflict with another band. But after the other band had been driven away, the war was over. Wars could happen, but they were not a critical component of the culture. It was not until the advent of agriculture, with plant cultivation and domesticated livestock, that people were able to store supplies and so even had time for military campaigns. As for the vanquished, these supplies were something that could be stolen without necessarily destroying those who had been robbed. War became a permanent institution because it was a means to gather together the surpluses of smaller groups of people and to invest them in strategies that resulted in an increase in productivity, i.e., in the production of even more surpluses that again could be invested in progress. And this was a far more effective means of subsistence than negotiations or free confederations would have been. The motivations of the individuals in power or of the warriors were less important. In nature, characteristics like horns, for example, arise by means of chance mutations. Whether the horns remain or disappear depends on whether they give their bearer a reproductive advantage or are a hindrance. A tribal chief might start a war out of hatred of his neighbor, for reasons of prestige, for religious reasons, because of pure arrogance, because of built-up aggression, because of sexual frustration, whatever. But war is able to persist as a permanent institution because of several factors: first, it promotes the congregation of people in large empires, and thus it makes gathering surpluses possible. Secondly, because it takes away more surpluses from a large portion of these people than they would be willing to invest in the common cause or in the future. And finally war persists because it promotes "progress" in the form of increased productivity of human labor. An advantage to society does not, however, have to be an advantage to the individual. A community of 500 free farming families would have been happier than an army of 100,000 farming families under the rule of a warrior chief. But only the empire of a warrior chief could afford a capital city with temples and schools for priests where the movements of the stars are studied.
The aggression that humans are capable of is certainly a precondition for wars being waged in the first place, but it is not the cause. Were the young men in Austria-Hungary more aggressive in 1914 than say in 1880? Or did the Kaiser become more aggressive in his later years? Often people’s aggressiveness and hatred of their neighbors must be stirred up in order for them to be ready to go to war or let their children go. Often though, the aggressiveness of soldiers has to be curbed. Whereas, on the one hand, some humans are trained for special units to be fiends, as for example the Green Berets in Vietnam, a modern army needs foremost people who are disciplined and who function reliably; that is, people who let themselves be governed by emotions as little as possible. The human being’s capacity for coolly objective and dispassionate action is, perhaps, even more dangerous than his capacity for aggression. As important as are all the pedagogical efforts that serve to reduce aggression, promote understanding of foreign cultures, teach the ability to solve personal conflicts peacefully, none of these measures can eliminate the causes of war. The industrial market economy that today controls the social structure on our planet is concerned (as no previous social structure has been) with increasing productivity, with producing ever more goods requiring ever less work, and investing the surpluses immediately in increased production and productivity. This not only leads to the fact that we will soon be reaching the limit of what the planet can stand ecologically. Here also lies the root of new wars. It is said that the wars of the future could be fought over ever decreasing resources, e.g., water. That is conceivable. But it is just as conceivable that future wars will be waged between the giant multi-national economic conglomerations, and that they will be about who may sell what to whom.
The important difference is this: A conflict about resources can be resolved. Let us say, the conflict is about water. Such a conflict can be resolved in different ways: One of the competing parties may conquer the resource for themselves and leave the others to starve or to flee. Or they may destroy the other party more or less completely by direct violence. Or the war reduces the population on both sides until the combined population is small enough for the existing water supply. But the conflict can also be resolved if new sources of water can be found, for instance by digging deeper wells, by desalinating sea water; or by inventing methods to save water and reduce its consumption. Conflicts about resources can be the cause of the most terrible, most cruel wars, even of genocide. But conflicts about resources are finite. And it is always possible to at least think of a peaceful way to resolve a conflict about resources. Whereas the war that is caused by the necessity - not the wish, the necessity - to expand the empire, to acquire new markets, to concentrate more surplus, is inherent in the structure of exploitative societies and is infinite.
To avoid future wars, six billion – and soon it will be seven and eight billion – people will have to agree on new economies and social structures. Only when they know something about one another and act with each other in mind, can people avoid increasing the harm to all by seeking only their own advantage. No longer can the goal be to constantly raise productivity – to produce ever more goods with ever less work; the exchange of things should not be the main content of interpersonal affairs. The fact that things can be produced with less and less labor should not lead to ever more things being produced. Instead it should lead to people being able to use the freed-up time to exchange social services with each other: art, entertainment, care giving, healing, education, research, sports, philosophy …
Select afterword failed: Table 'at27023_peaceculture.Texts' doesn't exist